نسيم ضاهـر *
يطرح سؤال مشروع حيال التكليف الذي أولته المعارضة للعماد ميشال عون بغية السير بالحوار تمهيداً للخروج من الأزمة. فليس من مأخذ بحامله وتوكيد لأمانته في النهوض بالمهمة عن فريق بأكمله، في ظروف بالغة التعقيد، وبعد انقضاء سنة ونيّف على تحرك ممانع، وشغور سدّة رئاسة الجمهورية لأوّل مرة على هذا النحو. غير أنّ سجل المجريات وطبيعة الصراع الدائر على السلطة، تقاسماً أو مشاركة أو اتهاماً باستئثار، يدعوان إلى مزيد تمعّن في خلفيات الخطوة، تبعاً لسابقة أنيطت بالرئيس برِّي، في ضوء تركيبة هيكل المعارضة ومعادلة الأحجام والأوزان التي جعلت من حزب الله عموده الفقري بالقطع والاعتراف الشامل.
تأتلف المعارضة على نهج سياسي موحَّد غايته إعادة تكوين السلطة وإرساء توازن جديد يعكس إلى حدّ ما تعتقده مُعبّراً عن رصيدها الشعبي، ويصحّح، بالقدر ذاته، الخلل النَّاجِم عن نتائج الانتخابات التشريعية الماضية «المسروقة» من جانب الغالبية النيابية الحالية.
وعليه، تؤيّد أطراف المعارضة المجتمعة في جبهة واحدة، الطعن الذي ساقه التيار الوطني الحرّ والخاص بدائرة بعبدا/عاليه، وتبني على أساسه مقولة «الأكثرية الوهمية»، مدعّمة بالالتفاف الجماهيري حول مطالبها، قياساً بالحشود التي لبَّتْ دعواتها واستجابت لشعاراتها المرفوعة.
إلا أنّ الدور المحوري المنسوب إلى العماد عون يتخطَّى ما أنبأ به التفاهم الأصلي الموقَّع في كنيسة مار مخايل، ويوسِّع دائرة مودعي الأمانة بين يدي نزيل الرابية، محلياً وإقليمياً، بما يفوق المتوقَّع في علم التعاون المرحلي ضمن الصيغة اللبنانية، ويشي بتعويل وازن على رابط عضوي من ناحية الحسابات، يتعدّى الشأن الداخلي المحض، وينتظم في إطار المحور الإقليمي الأوسع. يفيد ظاهر الأمر عن إعطاء العماد عون علاوة لم تسلخ على أخلص المقرّبين. فحسب نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، يمتلك العماد وحده، وفي جيبه، ورقة الشروط الآيلة إلى الحلّ، على سبيل الوكالة الشاملة المطلقة، غير القابلة للعزل. وبخلاف جاري عادة التحفّظ، شرح وزير الخارجية السوري وليد المعلم، في مؤتمر صحافي رسمي، كيفية التعاطي مع الأزمة اللبنانية، وحسم معلم الطريق وجهة وحيدة محطّتها الرابية حصراً.
في السياق، يُذكر أن رئيس حركة أمل والمجلس النيابي، رغم علاقته الوطيدة والمديدة بكلّ من حزب الله ودمشق، قلَّما نعم بحرية الحركة المطلقة، أو حازَ تنويهاً مماثلاً خوَّلهُ المرجعية والحسم، مُكتفياً بإجراء المحادثات والتداول، شرط العودة إلى أصحاب التكليف لبلورة الموقف النهائي وصياغته.
كما يجدر التوقف عند تسلسل الأحداث لبيان مغازي انتقال المهمّة التمثيلية من المُؤتمن عليها سابقاً منذ حرب تموز وإبّان مآسيها، الشريك في السرَّاء والضرَّاء، وفي الحكومة والاستقالة منها، إلى المعارض الدهري المُغرِّد خارج السرب أساساً، المنادي بأحقيته في تبوّء سدّة الرئاسة الأولى على قاعدة ثوابت مسيحية تعبق بروائح فدرالية الطوائف وتستتبع حُكماً مراجعة توزيع السلطات ونصابها الدستوري.
تكبر غرائب المشهد السياسي وتكثر مع إطالة أمد الأزمة، وانسداد أفق التسوية المعقولة والمقبولة. للدلالة، ثمَّة مفارقات من معدن الأحجيات، يعجز المنطق السليم عن التسليم بكفاية أسبابها المعلنة، إذا ما وجدت وعرضت، ومتانة حججها. فعلى مبنى المثال لا الحصر، يستحيل الخلود إلى البراءة في تفسير حماسة حركة أمل وزعيمها لفقدان التكليف (أو بالأحرى لإسقاطه عنها) وإيداعه مرشحاً رئاسياً عاند هندساتها وما تقرَّبَ منها يوماً في شكل ودِّي مباشر. كذلك يقتضي امتلاك مقدار من المهارة البهلوانية والطوية الطوباوية لشرح نزول النعمة الدمشقية عجائبياً على شخص العماد عون لقيادة عملية الحوار بثقة مطلقة، وهو العازف عن الصلة بها، والنَّافي لكلّ تحالف معها، وبالتالي الغريب عن تنسيق يومي لصيق عُرِفَ عنه أنه خلاصة أسلوب تعامل سوريا مع نظرائه اللبنانيين، ومصدر الإمساك بشبكة معاونيها وأعوانها وراء الحدود، عن حنكة ودراية، أوَليس من شذوذ عجيب حين يُفوِّض أفرقاء 8 آذار أمرهم، بلا تردّد أو تحوّط إلى مُتبرئ من الانتماء الى معسكرهم، يجاهر باستقلالية قراره واتخاذه مسافة فاصلة عن تاريخهم وتشكيلاتهم؟
يترنَّح الحلّ، كلّ حلّ ممكن، حين يحتلّ ناصية مدخله الحواري مرشح واثق من أهليته ومشروعيته الحصرية، تنحّى تكتياً عن المنصب، ووافق، من طرف اللسان، على تجيير الرئاسة مؤقتاً لبديل صادف الإجماع، لتعذّر عبوره هو، راهناً كأصيل عبر التصويت في مجلس النواب. لذا، بعيد نفاد مهلة مبادرته الموقوتة التي أوقفت تسمية الرئيس العتيد على صاحبها منفرداً، واستخفّت بنصّ دستوري صريح في ما يعود لآلية تكليف رئيس الوزراء، خرج العماد بسلّة شروط خفية، كشفت الأيام بعضاً من بنودها وأعادت المسألة الخلافية إلى مربّعها الأول.
إلى ذلك، استبطنت لائحة المطالب المدرجة مقيّدات ومزيداً من الإملاءات، بحيث يُحاصر مرشح الإجماع، إذا انتُخِب، ويُكبَّل عهده، من مبتداه وفاتحته، بالتزامات مسبقة ناجمة عن ظنّ في مقدرته على الاختيار وممارسة دوره، وشكّ بأمانة معاونيه وفريقه المحتمل، بذريعة تصليب موقعه، وتسهيل انطلاقة العمل المؤسّسي الميثاقي بتذليل العقبات. أي إنّ التمهيد المعدّ للفصل الرئاسي الوفاقي، يستدعي إنقاصاً لصلاحيات ثابتة يُراد تعزيزها شعارياً، وتغليباً للهوامش السجالية على متون الدستور ومقتضيات الأعراف، في مجاراة لفظية لمنطق التوازن، ومحاباة مصطنعة للجناح المسيحي المغلفة باستعادة كامل حصّته من السلطة وتصحيح الخلل القائم بين المؤسّسات.
إنّ انتهاز فرصة الاستحقاق الدستوري الأرفع للتعبئة وكسب العطف والتأييد، لهو من بديهيات الحراك السياسي وفرضيات الحملات الانتخابية. إنما يكمن الغلوّ في التلاعب بالمشاعر والعزف على أوتار الغرائز استحضاراً لخوف مبالغ فيه، ودفاعاً عن مواقع بغاية الاسترضاء المجّاني وإشاعة قلق مفتعل وحرف النقاش عن جوهر المسائل المطروحة فعلاً.
في هذا الصدد، تتقاطع دوافع نقيضة مُغايرة المنشأ والخلفيات، تستولد مواقف متماثلة ظرفياً عالية النبرة، لا تخلو من مفارقات، على شاكلة رفع الغبن اللاحق بالمسيحيّين جرّاء الطائف وتطبيقه وإدانة فساد الطبقة السياسية والتنصّل من حقبة الهيمنة السورية ومفاعيلها، المحصورة سلباً بالغالبية الحالية دون سواها. وتسير هذه القراءة الانتقائية وتستمرّ على قدم وساق، غير عابِئَة بهشاشة سندها وتجهيلها هوية الفاعل والمستفيد، إلى درجة معانقة السوريالية والغوص في صناعة الأعذار ورصف التبريرات.
تعتمل في المعارضة، كما الموالاة، فوائد التنوع وأعراضه. بهذا يتّسم محمولها بداهة بحاصل السلب والإيجاب العالق بكلّ ترتيب جبهوي تُسهم فيه أكثر من جهة لها منطلقاتها الخاصة وأولوياتها ومرجعيتها الفكرية والنظامية ومفكّرتها السياسية، المرحلية والبعيدة المدى في آن. يهمّنا، عملاً بالتوصيف المتداول المعمول به من الأطراف المعنية، تناول موضوعة الحالة العونيّة في تناغمها الثنائي المتبادل مع منظومة حزب الله وبيئته وتفاعلها مع طروحات قاطرة المعارضة بلا جدال.
على هذه المقدِّمات، يتبدَّى أن زعيم التيار الوطني الحرّ قايض وثيقة تيّاره التأسيسية وتمايزه ومجمل سلوكه السابق بانضمام حزب الله إلى سعيه نحو الرئاسة وإشادته بصدق نياته وتعويله على ثبات الحلف القائم بينهما. فلقاء كتمان التيار حزمة الهواجس المزمنة المُنبثِقة من مقاربته السيادية وتعريفه لهوية حزب الله وطابعه الكياني، بادل حزب الله انعطافة التيار الحادّة بتنصيب العماد عون مدافعاً شرساً عن ترسيخ حقوق المسيحيين ومتولياً عليها، دونما التفات إلى المناصفة المقرّة في الطائف والمنقوصة بفعل الشركاء جميعاً، عازياً المآخذ إلى رئاسة الحكومة، ومتجاهلاً إفراط الطرف الشيعي في ترجمة الخلل على أرض الواقع وداخل المؤسّسات، وإفادته القصوى من حقبة الرعاية السورية وتصدّره المتعاونين معها والصامتين عن إمعانها في تشويه تطبيق الطائف وشرذمَة مناوئيها.
تتحدث المعارضة عن إعادة تكوين السلطة بإسهاب في مطوّلات، وتعلن تباعاً عن تحديد خياراتها ورسم خارطة مسارها المقبل. بيد أنها تُقتِّر وتقتصد في موضوع استخدامات السلطة لاحقاً، وتكتفي بمهمّة صد المشاريع المشبوهة. ولقد قادها هذا الطرق الشعاري إلى فراغ في محتوى رؤيتها المستقرّة على غلاف السلطة، وتعثّر في تلقّفها الإيجابي للفرص المُتاحة، وأخصّها انتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية بالتوافق. إنّ جموداً ملحوظاً يخيِّم على ورشة المعارضة الفكرية ويخنق الجهد الخلاّق في هذا الإطار، خلافاً لجهوزيتها واستعداداتها للحراك والتحشّد الممانع.
من هنا نشأت مُعضلة تعاملها مع المبادرات، وإخفاقها في ترجمة خيار المرشّح الوفاقي إلى واقع حيّ ملموس. وقد يكون إيكال أمر التفاوض إلى العماد عون، وسحبه من عهدة الرئيس برِّي، بغرض إشغال الغالبية وإحراج مسيحيّي 14 آذار، وربما التعتيم على دور بكركي و«القوطبة» على دعواتها المكرّرة لملء الفراغ الرئاسي.
لكن المرجَّح أن هذه النقلة تنمّ عن مأزق فعلي واجهته المعارضة عند الامتحان، فآثرت الهروب إلى الأمام ريثما ترهق الموالاة، وخصّت أشدّ أقطابها تمسّكاً بتعطيل تسوية عادمة لمراده الرئاسي الدفين، وموازية لمصالحه الانتخابية والشعبية في المدى المنظور، بغية إبعاد الشبهات عن التدخّل الإقليمي، ومن موقع الماروني القويّ غير المنخرط في محوره، والفارس صاحب الحصانة المعنوية الرمزية، المندفع لمقارعة الغرب.
أحالتْ المعارضة ملفّاً مُثقلاً بالشروط والموانع إلى عارف بالمقصد، حريص على المواجهة، أهل للمناورة، ملمّ بفنونها. جاء عنوان مهمّته، وفقاً لكتاب التكليف، إقامة السدود، فيما المنتظر والمؤمل شقّ الترعات والأقنية. إن للوصل طريقاً واضحاً قصير المسافة، وللقطع ألف شِعَاب وطريق.
* كاتب لبناني