ياسين تملالي
ما الذي يجمع بين أساطير البحر الأبيض والمشروع الساركوزيّ؟

لا يتوقّف الملف الذي أفردته (La pensée de mid) «للميتولوجيا المتوسّطية» عند التحليل الأكاديمي للأوديسة أو قصة أهل الكهف ومختلف تلوّناتهما الأدبية، بل يتعدّاه إلى قراءة أساطير متوسّطية معاصرة كـ«أسطورة أوروبا» كما يكتب صفحاتها المهاجرون السريّون... يقول تييري فابر، رئيس تحرير المجلة، في كلمته التقديميه: «ليست القصّة الأسطورية مجرّد حكاية من حكايات الأقدمين. إنها أيضاً جزء من ثقافة الحياة اليومية».
ويمكن اعتبار مقال كاترين بايون «المتوسّط: شذرات من خطاب غرامي»، ميثاقَ الملف وعنوانَه الشاعري. وتطرح فيه الكاتبة الفرنسية جانباً الأسلوب العلمي الجاف، مفضّلةً التنويه الأدبي بما تحت ركام خرافة «الصراع الأزلي بين الشمال والجنوب» من أشكال ثقافية تكوّن «المخيلة المتوسّطية المشتركة». وتنكبّ على اكتشاف ما تسمّيه «خيوط أريان» المؤدّية كلّها إلى عناصر توحّد شعوب البحر الأبيض المتوسّط، عناصر لم يقوّضها اختلاف اللغات ولا تواتر الحروب والنزاعات: تشابك لدور العبادة في المدن العتيقة، وطريقة في التعايش يؤدّي فيها اقتسام الخبز الوظيفة الرمزية نفسها، وتراث من الموسيقى والرقص وحتى من خرافات الجان...
ويدرس المؤرخ الفرنسي إميل تميم شخصيةَ «أوليس» في عرض لمؤلَف قديم كتبه غابريال أوديسيو في الأربعينيات («أوليس والذكاء»، غابريال أوديسيو، غاليمار، باريس، 1947). ويستخلص من عرضه أن «أوليس» في الحقيقة رمز لحياة الشتات، وأنه من هذا المنطلق بطل متوسّطي عابر للزمان والمكان. ألا يُذكّر ترحاله بترحال المهاجر المغاربي في القرن العشرين؟ ورغبته الجامحة في الرجوع إلى الديار، ألا تذكر برغبة هذا المهاجر في أن ينهي حياته في مرابع طفولته؟ وزوجته مثال الوفاء، بينيلوب، ألا تشبه على اختلاف التفاصيل، زوجة المغترب الجزائري الراعية لذكراه رغم درايتها بكثرة إغواءات المهجر العاطفية؟
ويتبنّى اختصاصي العلوم السياسية الفرنسي برونو إتيان المقاربة التحليلية نفسها في دراسته لأسطورتين خلّدهما الكاتب بروسبير ميريمي في قصّتين شهيرتين، وهما أسطورتا «كولومبا» الكورسيّة و«كارمن» الغجرية الإسبانية. ويستخلص من استعراضه هاتين الشخصيتين أنهما وجهان للمرأة نفسها: المرأة المتوسّطية. كولومبا هي رمز إسراف نسوي في الإيمان بقوانين الجماعة. أمّا كارمن، فعكس ذلك، رمز تمرّد النسوة على هذه القوانين ومثال للأنوثة المتوحّشة المغوية. ويتعايش الرمزان، يقول الكاتب، في مخيلة المتوسط بالرغم من تعارضهما الظاهري.
وتدرس الباحثة الفرنسية كاترينا سرايداري في «مبارزة القديسين» أساطير القديسين المسيحيين والأولياء الصالحين المسلمين في كل من العالم اليوناني والعالم العثماني، وترى فيها مجالاً رمزياً للصراع تارة وللتواطؤ تارة أخرى بين هذين العالمين.
ويتطرّق الروائي اليوناني تاكيس تيودوروبولوس إلى «أسطورة سقراط» متسائلاً: لماذا تجرّع أكبر حكماء الإغريق السمّ طوعاً رغم اقتناعه ببراءته؟ ولماذا خطّط لانتحاره في محضر تلامذته؟ ويردّ على السؤالين بالقول إن الفيلسوف سعى من خلال «مسرَحَة» موته بهذه الطريقة إلى أن يخلق لنفسه أسطورة تخلّده، أسطورة هو صانعها الشخصي لا رغبة الآلهة القدسية ولا إجماع الكهنة الأثينيّين.
ويحلّل الباحث الفرنسي مانويل بينيكو بعض الأساطير المحيطة بموقع أفسوس الأثري. أفسوس هي المدينة التي أعلن فيها مجمع مسيحي تاريخي أن العذراءَ «أم الله» وآوت إحدى بيوتها الجبلية المسمّاة اليومَ «بانايا كابولو» والدةَ السيد المسيح. «أيعلم حجّاج بانايا كابولو أن هذا الجبل كان قبل انتشار النصرانية مخصّصاً لعبادة ليتو، أُم الإلهة أرتميس وأخت أبولون؟»، يتساءل الكاتب، مبيناً كيف انتقلت هالة التقديس، بصورة طبيعية ودونما صراع، إلى السيدة مريم من إلهة وثنية، وكلتاهما امرأة وأم. كما يحلّل مانويل بينيكو أسطورة «نوام أفسوس السبعة» وهم، حسب الرواية الكنسية، شبّان عُوقبوا بسدّ منافذ مغارة عليهم لرفضهم التخلّي عن دينهم، ويعرفهم المسلمون بـ«أهل الكهف». بَليَت الأسطورة ولم يبق لها أثر في غير العالم الإسلامي، لكن الكنيسة الكاثوليكية أحيت ذكراها بعد اغتيال سبعة رهبان في قرية تبحيرين الجزائرية في 1996، إذ شبّهت النسّاك المغتالين بـ«نوام أفسوس».
ومن الميتولوجيات المتوسّطية الأخرى التي تتجاوز الزمان والمكان «ميتولوجيا الخبز». ويدرس الكاتب الكرواتي بريدراغ ماتفيجيفيتش عناصرها المشتركة بين مختلف شعوب المتوسط. أمّا الصحافي الإيطالي روبيرتو ألجامو، فيحاول الإحاطة بوجوه «الأم الميتولوجية» المتعدّدة انطلاقاً من وصف لوظيفة الأمومة ولأدوارها الاجتماعية في جزيرة صقليّة.
هذا عن الأساطير القديمة وحيويتها. ماذا عن أساطير المتوسّط المعاصرة؟ تتطرّق المجلّة في مقال للصحافي المغربي إدريس كسيكس إلى «أسطورة الحلم الأوروبي في المغرب الأقصى». أصبح هذا الحلم، باتساع الهوة الاقتصادية بين ضفّتي المتوسّط، يستهوي ملايين الشباب المغاربة. ولا يقلّل من رغبة هؤلاء الشبان في عبور البحر ضيق ذات اليد ولا تحدّ منها معرفتهم بمخاطر الهجرة السرية. هكذا، تحوّلت القارّة الأوروبية إلى مكان خرافي تتحقّق فيه الآمال والطموحات، وأصبح السفر إليها شبيهاً بأسفار الروّاد الباحثين عن كنوز أميركا الأسطورية. ما أبعد المغرب في مثل هذه الظروف، يقول إدريس كسيكس، عما شبهه به الملك الحسن الثاني في إحدى خطبه الشهيرة، فلا «أغصان له في أوروبا» سوى أغصان ميتة لا تصلح لأن تُبنى في ظلها أسطورة هوية تعددية.
ليس البحر الأبيض إذن مجرد مسرح لحكايات عتيقة متجدّدة، فهو كذلك منطقة جيوسياسية يستأثر فيها الشمال بالريادة السياسية والاقتصادية. هذا الجانب ــــــ الذي يهمله بعض دعاة «الديانة المتوسّطية» هو ما يتطرّق إليه تييري فابر في مقال عن مشروع «الاتحاد المتوسطي». يقول فابر إن هذا المشروع الساركوزيّ، وإن بدا ضرورياً بحكم تحوّل مركز ثقل أوروبا إلى وسط وشرق القارة، تخترقه «صدوع» كثيرة تجعل من تجسّده أمراً شديد الصعوبة. أول هذه الصدوع رفض نيكولا ساركوزي الاعتراف بما سبّبه الاستعمار الفرنسي من مآسٍ لبعض الشعوب المتوسطية، وثانيها توجّهه الموالي لواشنطن في الشرق الأوسط. أمّا ثالثها ـــــ وأهمها على المستوى الرمزي ـــــ فسياسته الداخلية المطبوعة بهوس «حماية فرنسا» من زحف جنوب المتوسط
البشري.
* صحافي جزائري





العنوان الأصلي
la pensee de midi: mythologies mediterraneennes (عدد تشرين الثاني 2007)
الناشر
Actes Sud