سعد الله مزرعاني *
منذ مطلع العام الجاري، باشر الرئيس الأميركي جورج بوش، سلسلة تعديلات على سياسته الشرق أوسطية. كان الهدف تدارك الإخفاقات والصعوبات المتنوّعة التي واجهته، وخصوصاً في العراق، وأدّت إلى تكبيد حزبه (فضلاً عن رصيده الشخصي) خسائر كبيرة، كان أبرزها في الانتخابات لمجلسي النواب والشيوخ الأميركيّين.
لم تكن التعديلات ذات طبيعة نوعيّة، لكنّها اتسمت بانتهاء الاندفاعة الهجومية، وبالسعي لتحديد الخسائر، وبمحاولة الحصول على أوراق إضافية...
وكان فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006 قد حسم، هو الآخر، بشأن انعدام بدائل لإحداث تغييرات جوهرية في مصلحة سياسة بوش وإدارته، في الشرق الأوسط. ومعروف أنّ ذلك العدوان قد نُفِّذ من الحكومة والجيش الإسرائيليَّين، إلا أنّ قرار حصوله والنتائج المرجوّة منه، كانا أميركيَّين بامتياز. وما زالت في الأذهان عبارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس التي أملت، من خلال ذلك العدوان «بزوغ فجر شرق أوسط جديد»!
في شباط من عام 2007، أعلن الرئيس الأميركي استراتيجيّته «الجديدة». وقد قضت برفد القوّات الأميركيّة في العراق بنحو ثلاثين ألف جندي. لكن هذه الزيادة، مع ذلك، كانت ذات طبيعة دفاعية. كان الهدف منها تحسين الأمن في العاصمة العراقية، بغداد، خصوصاً، تمهيداً لإطلاق دينامية سياسية حيال مجمل الوضع العراقي في داخله وفي محيطه. وكان حاضراً في كل ذلك، تأثير لجنة «بيكر ـــــ هاملتون»، الأميركية التي كُلِّفت من الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأميركية، تقديم تقرير وتوصيات من شأنها الإشارة إلى الأخطاء، وأيضاً صياغة توصيات مناسبة، لتدارك إخفاقات إدارة بوش وفريق «المحافظين الجدد» المتحالف معه.
كان لاستراتيجية بوش «الجديدة» مقتضيات عديدة في الوضع العراقي. ونتوقّف هنا فحسب عند تتمّات هذه الاستراتيجية وانعكاساتها على الوضعين الفلسطيني واللبناني.
قبل ذلك لا بدّ من الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية في التعامل الأميركي، مع الأنظمة والقوى التقليدية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية. فها هنا سقط التطلّب الأميركي، «الديموقراطي»، حيال تلك الأنظمة. ولقد عادت إدارة بوش إلى التعامل معها بوصفها قوى «الاعتدال» التي يجب أن تنخرط، إلى جانب واشنطن، في معركة مواجهة قوى «الشر» و«التطرّف» و«الإرهاب»، وقد كرّر بوش وفريقه مراراً التحذير أن هزيمة أميركا في المنطقة تساوي سقوط هذه الأنظمة والقوى وزوالها، دون رحمة!
وبالفعل لبّى «عرب الاعتدال» هؤلاء، النداء الأميركي، واستمعوا جيّداً إلى التحذير من فشل واشنطن وهزيمتها، وأذعنوا بالتالي لمطالبها ولإملاءاتها. ولقد جرى تطبيق ذلك بشكل واضح وفعّال حيال الأزمتين الفلسطينية واللبنانية:
ـــــ فمنذ قمّة «العقبة» إلى مؤتمر «أنابوليس»، انخرط معسكر «الاعتدال» في الخطة الأميركية دون تردّد، ولو مع شيء من الأوهام والتمنّيات. فالعبء الفلسطيني، مقروناً دائماً بالعجز وبالتواطؤ (وحتى بالخيانة)، كان ولا يزال كابوساً، بالنسبة إلى تلك الأنظمة التي فاقم أساساً مأزقها، استمرار النضال والتضحيات الفلسطينيّين، إلى حدود أبقت قضية ذلك الشعب العظيم الصامد والمكافح، حيّة، ونابضة، وفاضحة للظلم وللتقصير وللتواطؤ وللانحياز...
ولسنا بحاجة إلى إيراد أمثلة على الانحياز الأميركي للعدو الصهيوني. لكن ما يجب التوقّف عنده، هو ذلك الالتباس (الخادع كما نعتقد) الذي يمكن أن ينجم عن تحليل السياسة الأميركية «الجديدة» وعن نتائجها على النضال والحقوق الفلسطينيّين. فثمة اعتقاد يوجّه سياسات فريق فلسطيني (في قيادة السلطة خصوصاً)، مفاده أن إدارة بوش تسعى إلى تحسين صورتها في المنطقة، ملبّية أيضاً، ضغوطاً أوروبية وعربية، من أجل التوصّل إلى حلّ وسطي، للقضية الفلسطينيّة. وتدور الآن عملية التفاوض بالنسبة إلى الفريق الفلسطيني المشارك فيها على هذا الأساس. وقبل أن نتناول الوقائع المرافقة التي تؤكّد أن القيادة الإسرائيلية أضعف من أن تقدّم تنازلات ذات مغزى في مواضيع الحلّ النهائي (هل هي راغبة في ذلك أصلاً، ومبدئياً)، وقبل إيراد الأمثلة على المضي في سياسة بناء المستوطنات والتصعيد الإجرامي الصهيوني إزاء الفلسطينيين وهو عملية يومية، يجب العودة إلى حقيقة السياسة الأميركية حيال الملف الفلسطيني. فالرئيس جورج بوش بموجب ما ذكرناه من محاولاته لتعديل بعض سياساته في المنطقة، إنما يرمي بالدرجة الأولى، إلى تحسين شروط خوض حزبه للانتخابات الأميركية التي تدخل مرحلتها الحاسمة في أوائل الصيف المقبل. ولأسباب كثيرة، تتعلّق بجوهر السياسات وبموازين القوى، وبالتحاق معظم الموقف الرسمي العربي بالسياسة الأميركيّة، يبدو بوش، في حقيقة الأمر، طامعاً في الأخذ، وليس مستعدّاً للعطاء. بكلام آخر، إن الحصول على الدعم الصهيوني، المالي والسياسي والانتخابي، يستدعي تقديم خدمات لإسرائيل، لا الضغط عليها من أجل تحقيق «رؤية» بوش المزعومة، بقيام الدولتين. ولقد أكّدت زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة هذه الحقيقة. فرغم بعض الكلام المعزول عن أي ضغط على حكومة إسرائيل، على قيام الدولة الفلسطينية، تبدو «التنازلات المؤلمة» مطلوبة، فقط، من الجانب الفلسطيني. وخارج الأراضي المحتلّة، أي في المحطّات الخليجية لجولة الرئيس الأميركي، فقد تناول فقط، الأهداف الأساسية للجولة: عزل إيران، الحثّ على التطبيع مع إسرائيل، امتصاص الجزء الأكبر من عوائد النفط، تعزيز الوجود العسكري في المنطقة...
وإذا لاحظنا أن في المناورة الأميركية اشتراطاً واضحاً لتعميق الانقسام الفلسطيني وتأجيج الصراع بين حركتي «فتح» و«حماس»، يصبح استمرار الرهان على إيجابيات في السياسة الأميركية الجديدة، من سابع المستحيلات.
إن «اللحاق بالكذّاب إلى باب داره»، حسبما ما يقول المثل الشعبي، لا يجوز أن يمثّل استراتيجية قائمة بذاتها لدى القيادة الفلسطينية. إنه في أحسن الحالات، نوع من التكتيك الذي لا يجوز أن يحلّ محلّ استراتيجية نضال متكاملة، تقع الوحدة الوطنية الفلسطينية وبرنامج الحدّ الأدنى، من المطالب (الثوابت التي التزمها الشهيد ياسر عرفات) في مقدمة أهدافها.
ويستدعي هذا الأمر جملة مقاربات جديدة، يجب أن تأخذ بها القوى المتصارعة فلسطينياً. وثمة مسؤولية أيضاً على القوى الفلسطينية التي لم تنخرط بشكل كامل، في محوري الصراع. إلى ذلك ثمة مسؤوليات يجب أن تضطلع بها القوى المعارضة لمشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة، بما يسهل الحوار بين الأطراف الفلسطينية ويمتصّ المناخ المتوتّر والانقسامي الحالي الذي تعانيه الساحة الفلسطينية.
ـــــ أمّا في الموضوع اللبناني، فإدارة بوش استماتت (بعد فشل عدوان تموز في تحقيق اختراق في المنطقة لمصلحتها، وبعد عجزها، هي، المبدئي عن القيام بعدوان جديد) من أجل الاحتفاظ بنفوذها في لبنان. وهي تستند في ذلك إلى تناقضات الوضع اللبناني، والتواطؤ الرسمي العربي مع سياستها.
وفيما تفترض معالجة الأزمة اللبنانية، الجنوح نحو تشكيل حكومة اتحاد وطني تستطيع أن توفّر الحدّ الأدنى من التفاهمات الضرورية بشأن الأولويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، تداركاً للتدهور المخيف الذي تتلبّد به الأجواء الداكنة، بل السوداء، تصرّ واشنطن على التفرّد بممارسة النفوذ على القرار الرسمي اللبناني. وقد تدخّلت الإدارة على كلّ المستويات، من أجل هذا الغرض. ولم يتردّد رئيس الولايات المتحدة الأميركية، في حثّ النواب اللبنانيين على الذهاب إلى انتخاب رئيس الجمهورية بالأكثرية البسيطة وغير الدستورية.
وواشنطن في ذلك، تلعب لعبة حافّة الهاوية. فهي من جهة لا تريد أن يتدهور الوضع إلى الدرجة التي تفقد، هي، فيها القدرة على السيطرة والتحكّم بالأحداث. إلا أنها بالمقابل، تشجّع فريقاً لبنانياً تابعاً لها، على رفض التسويات (التي لن تحصل ما لم يكن جوهرها المشاركة، ولو بحدّها الأدنى الذي يمنع الطرف الأميركي والفريق المتحالف معه، من تقرير سياسة البلاد، وخصوصاً حسم موقعها في الصراع الدائر في المنطقة إلى جانب المشروع الأميركي).
الوضعان الفلسطيني واللبناني، رغم الاختلاف الجدي بين شروط الصراع فيهما، ونسبة القوى ودرجة الصعوبات، يستدعيان مقاربات سياسية جديدة من أجل صيانة صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته، ومن أجل استعادة بعض الحقوق الفلسطينية، وكذلك من أجل منع تضييع لبنان، وتبديد مكتسبات شعبه وإنجازاته العظيمة في حقول التحرير والتقدم والديموقراطية.
* كاتب وسياسي لبناني