strong> طوني صغبيني *
بين بروكسل التي لا تزال منذ أشهر من دون حكومة في ظلّ طلاق شبه كامل في الخيارات السياسية بين أحزاب الإثنية الفلامينية الهولندية الثقافة، والأحزاب الوالونية الفرنسيّة، وبيروت التي تعيش منذ أكثر من عام «سقوط» المؤسّسات السياسية الواحدة تلو الأخرى (المجلس الدستوري، مجلس النواب، الحكومة، رئاسة الجمهورية...) في ظلّ انقسام طائفي وسياسي حادّ، تشابه كبير قد يغري بعض اللبنانيين في المستقبل القريب باعتماد تعبير «بلجيكا الشرق» بدل «سويسرا الشرق» ليدلّوا على بلادهم.
وإذا كان التشبّه بسويسرا حمل في الماضي حلم البعض بمحاكاة الحياد والفدرالية السويسريّتين أكثر مما عبّر عن رغبتهم بالتمثّل بمركزها المصرفي والمالي الفريد في العالم، فالتطلّع إلى بلجيكا له طعم أشدّ مرارة من الشعار السابق.
ففي هذا البلد الأوروبي الصغير، لم تكد تمرّ أشهر معدودة من الأزمة السياسية حتى عاد الحديث بقوّة عن حتمية الانفصال بين الشمال الفلاماني والجنوب الوالوني الذي كان الكلام عليه في السابق من المحظورات، والأزمة ناتجة في الأصل من شعور الفلامانيّين بالغبن وإصرارهم على نقل الصلاحيات الفدرالية إلى المناطق وتحويل بلجيكا إلى كونفدرالية. وتُظهر الاستطلاعات المنشورة بهذا الشأن أن نسبة تأييد الرأي العام البلجيكي لتقسيم بلاده، ترتفع كلما استفحلت الأزمة السياسية.
وفي لبنان كذلك، يلوح الكلام على «سقوط الصيغة» بعد أسابيع من فراغ مركز الرئاسة الأولى، وبعد أكثر من عام على استمرار حكومة لاشرعيّة في أكثر الأزمات حدّة في تاريخ الكيان اللبناني. ويبدو أنّ طرح الفدرالية أضحى أكثر جرأة، ولم يعد مقتصراً على طائفة دون غيرها أو على تيار سياسي واحد (كـ«حلف لبناننا» مثلاً لمؤسّسه سامي الجميل) دون الآخرين. ولعلّ الكلام عليه تحت الطاولة أغزر بكثير من التصريحات العلنية، إذ تحدّثت الصحف أخيراً عن استفسار أحد الدبلوماسيين في بيروت عن مآخذ المسؤولين اللبنانيين على الفدرالية نظاماً لبنانياً بديلاً.
قد يجادل المرء ويقول إن هاتين الأزمتين قد تشهدان قريباً حلولاً تتجنّب خيارات التقسيم، كانتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة أو إجراء انتخابات مبكرة... لكن هذا النوع من المعالجة «التخديرية» لا يعني إغلاق الباب أمام طرق مسألة «سقوط الصيغة» كلّما لاحت الأزمة في الأفق، وخاصة أن الواقع السيكو ـــــ اجتماعي ـــــ الاقتصادي ـــــ السياسي المتراكم على مدى سنوات لا ينفكّ يتفاقم، ولا تتفكّك ألغامه بمجرّد تغيير رؤوس في قمّة الهرم. ويجمع عدد من المراقبين، على أن الأزمة الحالية بنيوية أكثر ممّا هي سياسية، في ظلّ نظام طوائفي يجعل من «وحدة الدولة» خياراً يقتصر على الطائفة الأكبر عددياً أو الأقوى سياسياً. ويبدو أنّ التاريخ يثبت هذا الاتجاه، إذ كان «لبنان الكبير» كالكأس المقدّس للأحزاب المارونية عندما كانت «المارونية السياسية» في عزّ جبروتها، ثم اختلف الأمر عندما انقلبت موازين الديموغرافيا والسياسة، تبدّلت الأدوار، التي تقوننت وشُرّعت بشكلها الجديد في تعديلات الطائف.
وعندما نشّطت عودة ميشال عون وخروج سمير جعجع من السجن القوى المسيحية، وعاشت الساحة السياسيّة حراكاً مرتفعاً في جميع الاتجاهات والطوائف، ولا سيّما على وقع استبدال الانقسام السياسي القائم على ثنائية «التقدّمية» المعادية للإمبريالية، و«الرجعية» العربية المتحالفة مع الغرب (بغضّ النظر عن المرحلة ومصطلحاتها)، بشرخ طائفي على ثنائية «الهلال الشيعي» الممانع، مقابل تحالف «الاعتدال السنّي»، اهتزّ النظام اللبناني من جديد وشغرت رئاسة الجمهورية للمرّة الأولى في تاريخه.
أمام هذه الأزمة الشاملة، تتسلّل الطروحات الفدرالية بقوّة، ويلاحظ المراقبون أنها تمسي أكثر قبولاً على الصعيد الشعبي، وبالأخص عند الطوائف الأقلّ عدداً، كالدروز والمسيحيّين، التي يقنعها «زعماؤها» بأن سقوط الصيغة سيقضي على المكتسبات القليلة الباقية لها. ولعلّ «مسيحيّة» عون الزائدة هذه الأيام، والتشديد على «الدور المسيحي الفاعل والإيجابي في الحياة السياسيّة» بحسب تعابيره في «وثيقة الطروحات المسيحية اللبنانية الثانية» هو لكبح شارعه (وربما كبح الآخرين) عن الانسياق في المزاج الفدرالي.
وتعبير «الفدرالية» في لبنان لا يشير إلى المعنى الأكاديمي المعروف في علم السياسة، أي نظام الحكم الذي يوزّع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم ليخفّف بذلك النزاعات بين الجماعات المختلفة المكوّنة للدولة، بل يحمل دلالات مختلفة كلياً. فمن المعلوم أن الدولة الفدرالية هي دولة موحّدة، تدير السلطات المركزية فيها العلاقات الخارجية والجيش (مع ما يعنيه ذلك من إعلان للحرب والسلم) والنقد والنظام التربوي وبعض الاختصاصات الأخرى المشتركة بين الأقاليم كالمواصلات... واللبنانيون هم منقسمون تاريخياً على توجيه البوصلة الخارجية ومسائل الحرب والسلم. نتذكّر هنا كلام الموالاة على عدم أحقية حزب الله بامتلاك خيار الحرب والجدل البيزنطي في موقع لبنان في ما بقي من الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. وينسحب خلافهم على الاقتصاد، خلاف يثيره مؤيّدو الحياد اللبناني، وهم تقليدياً دعاة اقتصاد التجارة والسياحة، كما على النظام التربوي (كتاب التاريخ مثال حيّ)... وفي ظلّ هذا النوع من الانقسامات لا تستطيع حتى الدولة الفدرالية الحفاظ على وحدتها، لأن المواضيع الجوهرية المفترض أن تُكوِّن عماد السلطة المركزية هي محلّ الخلاف. وبالتالي الكلام على الفدرالية بوصفها حلّاً لفشل الصيغة، نوع من خداع الرأي العام، لأن المقصود به حقاً هو الكونفدرالية، أو بتعبير أكثر فجاجة: التقسيم. الصيغة اللبنانية تسقط إذاً، لكن السؤال الأكثر إثارة للقلق هو أن البديل قاتم في جميع الحالات، ما دامت «الطوائف السياسيّة» هي أطراف النزاع وهي الحكم: تسوية جديدة سيراها البعض حتماً على حساب «مكتسباتهم»، قد تكون مدخلاً لحروب جديدة، أو سقوط الدولة اللبنانية بالشكل الذي نعرفه في ظلّ استحالة إيجاد عقد سياسي ضامن لوحدتها.
وبخلاف المرّات السابقة، ليس التقسيم طرحاً سياسياً يتيماً، بل هو جزء من طفرة التفتّت التي تكوِّن إحدى السمات الأساسية لظاهرة العولمة، حيث تجتاح معظم دول العالم انقسامات مخيفة تهدّد بتجزئة أمتنها بنياناً. وفيما تكاد بروكسل، التي أرادها الأوروبيون عاصمة مؤسّساتهم الإقليمية ورمز وحدتهم، تتحوّل إلى رمز الانقسام وتداعي أحلام وحدة القارة القديمة، فإن لبنان صورة معبّرة عن إعادة تكوين الشرق الأوسط والعالم العربي الجارية على قدم وساق: «عراق فدرالي» على أساس طوائف وإثنيات، حيث انقضت مهلة السنة ونصف التي حدّدها الدستور لإقرار الأقاليم «الفدرالية». ومن جهة أخرى، «دولة يهودية» خالية من «الغوييم» (الشعوب غير اليهوديّة) في فلسطين، وهو الهدف الذي جعلته الدبلوماسيّة الإسرائيليّة عقدة مطالبها المستقبلية.
ثمّ أقليات إثنية (أكراد، سلالات أفريقية...) في إيران وتركيا والسودان... تجاورها أنظمة شبه علمانية متداعية تحت وطأة القوى الدينية المتطرّفة في سوريا، مصر، الجزائر، السعودية...
إنه واقع قاتم، لا يجمّله تشبيه بيروت ببروكسل، هاتين العاصمتين المجهولتي المستقبل... باستثناء أن البلجيكيّين، إن انقسموا، لن ينهش بعضهم بعضاً...
* من أسرة «الأخبار»