معمر عطوي *
حُكي الكثير عن حنكة الإيرانيّين، وبراعتهم في شبك العلاقات الدبلوماسية، وكتب كثيرون عن سياسة الفرس المتماهية مع حياكة السجّاد العجمي، الذي يحتاج الى الصبر وطول أناة. لكن جمهورية الملالي التي وصفها الدكتور طلال عتريسي بـ«الجمهورية الصعبة»، تميزت بالعديد من المحطّات في علاقاتها مع جيرانها الخليجيّين. علاقة لا بدّ من إضاءة بعض جوانبها، قبل أسابيع قليلة من احتفال الجمهورية الإسلامية بالذكرى التاسعة والعشرين لانطلاق ثورتها عام 1979.
لقد شابت العلاقات الإيرانية ــــــ الخليجية، وبالأخصّ منذ بدء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، علاقات توتر وجفاء بسبب دعم هذه الدول لنظام صدام حسين «العربي» في حربه ضدّ «الفرس»، وتماهياً مع السياسة الأميركيّة التي قطعت علاقاتها مع طهران منذ انتصار الثورة وبدأت تحاصرها من كلّ جانب.
لكن بعد نهاية الحرب، وبالذات في عهد الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني، بدأت طهران باعتماد سياسة مرنة تجاه الدول الجارة. سياسة لم تؤتِ ثمارها إلّا حين وصل الإصلاحي محمد خاتمي الى السلطة (1997-2005).
بيد أنّ الفترة التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد احتلال أفغانستان والعراق، وتمترس جحافل الغزو الأميركي على الحدود الإيرانية من الجانبين، دفع الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، الذي ينظر اليه بعض القادة الخليجيّين كمغامر «يستفزّ الغرب بتصريحاته التدميرية»، الى اتّباع سياسة أكثر اتزاناً تجاه الجيران، الذين أصبحوا بمثابة قنابل أميركية موقوته في أي حرب مفترضة ضدّ النظام الإسلامي.
لعلّ الحاجة أصبحت متبادلة لدى الإيرانيّين والخليجيّين، على السواء، إلى مثل هذه السياسة الودّية. حاجة تنبع من اعتبارات عديدة: منها ضرورة تعزيز العلاقات مع الرياض من أجل امتصاص التوتّرات المذهبية في لبنان والعراق، ومع البحرين بغرض طمأنة الجزيرة الخليجية إلى أن لا أطماع إيرانية فيها، وتسوية قضية الجزر مع الإمارات إضافة إلى مشكلة الحدود البحرية مع الكويت.
بأيّ حال، لم يكن حضور الرئيس الإيراني لأعمال قمة مجلس التعاون الخليجي في الدوحة مطلع الشهر الماضي، حضوراً عادياً يقتصر على دوره كضيف مراقب. بل تعدَّى هذا الحضور الشكل البروتوكولي ليصبح حدثاً خليجياً يؤسَّس عليه الكثير من المشاريع والأفكار التي من شأنها تأسيس مجلس تعاون جديد يجمع بين ضفتي الخليج الفارسية والعربية.
من هنا، كان خطابه دعوة إلى دراسة مجموعة من الاقتراحات، علّ أبرزها وأهمّها الدعوة الى تأسيس مجلس تعاون أمني، ومجلس آخر للتعاون الاقتصادي.
لقد تجاوز حضور نجاد مسألة بثّ تطمينات عن ملفّات لم يأت أصلاً على ذكرها في خطابه أمام قادة الدول الخليجية الست؛ على غرار الملفّ النووي المثير للجدل وقضية العراق الشائكة والاحتلال الأجنبي العسكري للمنطقة، فضلاً عن الجزر الثلاث المتنازع عليها بين بلاده والإمارات والمشكلة الحدودية (الجرف البحري) مع الكويت وتداعيات التصريحات الإعلامية الإيرانية عن ضمّ البحرين الى «إمبراطورية» إيران.
نعم، تجاوز حضوره مسألة بثّ تطمينات إلى الجانب الخليجي على غرار المعزوفة المكررَّة عن أن البرنامج النووي «سلمي»، وأن «التهديدات العسكرية لا تستهدف الضفة العربية من الخليج الفارسي»، وأنّ الجمهورية الإسلامية الشيعية «لا تسعى الى تشييع أهل السنة في الخليج والمنطقة» ولا تعمل على بث القلاقل من خلال مواطنين شيعة يؤيدون الثورة الإسلامية.
كلّ هذه الهواجس باتت في خطاب الرئيس الإيراني «تفاصيل لا داعي للالتفات إليها أمام «مشروعه التنموي والاقتصادي» للمنطقة»، والذي حمل جملة من «الإغراءات» منها تزويد هذه الدول بالغاز والمياه.
لقد كان واضحاً أن نجاد تجنّب الخوض في الملفّات الخلافيّة. كما تجنّب إثارة العديد من الملفّات الإقليمية المثيرة للجدل وبينها الحشود العسكرية الأميركية في الخليج، ليقول للدول الجارة المرتابة من منجزات عسكرية ايرانية وبرنامج نووي مثير للجدل، إنّ التطمينات الكلامية لم تعد تجدي، وإن دول المنطقة بعد فشل مؤتمر أنابوليس لا يمكن أن تراهن على دعم أميركي ينتشلها من أزماتها. لذلك كان تعبيره «الدول السبع» إشارة الى مشروع تكاملي يتجاوز التطمين.
رغم ذلك، يصحّ القول إنّ حضور نجاد، الذي يعدّ الأول من نوعه لرئيس إيراني منذ تأسيس مجلس التعاون عام 1981، فرصة لتبادل التطمينات. تطمينات لم يترك المسؤولون الإيرانيون في الآونة الأخيرة فرصة إّلا وبثّّوها، في محاولة منهم لكسب ودّ جيرانهم الذين تزوّدوا بأسلحة أميركية بلغت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.
وكانت لزيارة نجاد الى البحرين في تشرين الماضي، دلالات سياسية واضحة، تدعمها مبادرات اقتصادية، من شأنها العمل على تنفيس الاحتقان، وتمثّل اعترافاً ضمنياً باستقلال وسيادة البحرين. احتقان جاء على خلفية مقال صحافي كتبه رئيس تحرير جريدة «كيهان» الإيرانية المحافظة حسين شريعت مداري، رأى فيه المملكة الخليجية الصغيرة جزءاً من الأراضي الإيرانية.
ما أراد الرئيس الإيراني تأكيده خلال زيارته الى البحرين وقطر والإمارات وسلطنة عمان، التي سبقتها ولحقتها ثلاث زيارات الى السعودية، هو تأكيد طهران أن دول الخليج ليست هدفاً لضربات عسكرية محتملة من إيران إذا باشرت الولايات المتحدة تنفيذ خططها العدائية ضدّ الجمهورية الإسلامية.
لعلّ هذا التطوّر السياسي يشير بوضوح إلى محاولات كلا الطرفين الإيراني والخليجي نزع أي فتائل تفجير في المنطقة، في خطوة استباقية لحرب محتملة، لن تكون ايران وحدها من سيدفع ثمنها، إنما دول الخليج كلها.
رغم ذلك، لا بدّ من القول إنّ حركة الانفتاح الإيراني هذه، تخدم في المحصّلة سياسة حكومة الرئيس نجاد المحافظة، بعدما فشلت هذه الحكومة في ضبط الوضع الاقتصادي والحدّ من التضخّم الذي تجاوز نسبة الـ16 في المئة وغلاء أسعار السلع والمواد الغذائية فضلاً عن تقنين توزيع البنزين على السائقين، نتيجة ضعف الحكومة في تأمين احتياجات البلاد من هذه المادّة «المكررة»، رغم أن إيران تحتلّ المركز الثاني من حيث إنتاج البنزين في منظمة الدول المصدرة للنفط «اوبك» ورابع دولة على مستوى العالم.
المفارقة التي لا بدّ من ملاحظتها، هي أنّ كثافة الزيارات والاتصالات المتبادلة بين إيران ودول الخليج ، لم تسفر عن أيّ تنازل إيراني في أي من الملفات الخلافية مع هذه الدول. فلا هي سعت الى حل قضية الجزر الثلاث مع الإمارات (طنب الكبرى وطنب الصغرى وابو موسى)، ولا هي حسمت موضوع الحدود البحرية مع الكويت، كما أنّها لم تسعَ الى تسوية بعض القضايا مثل صراع النفوذ على الساحتين اللبنانية والعراقية والفلسطينية وتهدئة الشارع البحريني.
في السنة التاسعة والعشرين من الثورة الإسلامية، بدت إيران مهتمّة أكثر بترتيب شؤون البيت الداخلي، من خلال تعزيز حركة الاستثمارات والتجارة مع دول المنطقة، الذي سينعكس بلا شك، إيجاباً على الاقتصاد الإيراني الذي أصبح بمثابة حصان طرواده، تستخدمه المعارضة لخوض معركتها ضدّ السلطة، ولا سيما أنّ أسابيع قليلة تفصلنا عن استحقاق الانتخابات التشريعية، التي يمكن أن تحدّد شكل السياسة الإيرانية المقبلة، ومن ثم سياسة الرئيس الذي يمكن أن تحمله انتخابات الرئاسة عام 2009.
وربما أتاح تراجع الخطر الخارجي الذي كانت المعارضة تُحمّل الرئيس نجاد بتوفير أجوائه من خلال تصريحاته «الاستفزازية» المجال أمام الحكومة للتفرّغ للشأن الداخلي، في محاولة منها لإجهاض انتقادات الإصلاحيّين بقيادة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي يدعمه رئيس مجلس الخبراء الرئيس السابق علي أكبر رفسنجاني.
غير أن السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه أمام هذه التطورات: هل ينجح نجاد في تعزيز موقعه الداخلي من خلال العلاقات الدبلوماسية الناجحة مع دول الجوار، وما مستقبل الثورة في ظلّ الدولة وما شهدتها من تحولات خلال ربع قرن ونيف؟
* من أسرة الأخبار