ورد كاسوحة *
ثمة ما يدعو إلى التندّر والسخط معاً في شأن الرسالة التي وجّهها أحد أركان قوى 14 آذار إلى السيدة فيروز، وفحواها دعوة صاحبة الصوت الملائكي إلى الامتناع عن زيارة دمشق، وإقامة سلسلة حفلات فيها في معرض الاحتفاء بها من جانب الأونيسكو عاصمة للثقافة العربيّة لعام 2008، وذلك نزولاً كما يدّعي عند «رغبة» «أغلبية» الشعب اللبناني التي «يمثّلها» هذا النائب الآذاري إلى جانب زملائه في التيار «الاستقلالي» «السيادي» المناهض لنظام البعث و«لعاصمته» بالضرورة.
بدايةً، يجب القول إن هذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها التقليل من شأن العمق الحضاري والإبداعي للعاصمة السورية، فقد سبق لهذا النائب ولسواه من أركان النظام الأمني السوري ـــــ اللبناني البائد أن أشاعوا مثل هذه الأنماط المبتذلة في التعاطي مع الشعب السوري، وإن بلبوس مختلف بعض الشيء، أقلّه من ناحية الشكل. وتحضر في هذا الصدد، توصيفات سابقة عملت بروباغندا قوى 14 آذار من صحف ومحطّات تلفزيونية على تسويقها لدى جمهورها ولدى الشعب اللبناني عموماً، بغية إسقاط الممارسات الأمنية الشاذّة لنظام الوصاية البعثي في لبنان على الشعب السوري بأكمله، وبالتالي تحميل هذا الشعب ــــــ وخصوصاً شرائحه العاملة في لبنان ــــــ ما لا طاقة له على احتماله، وأخذه إلى موقع لا يشبهه ولا يمت اليه بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
ويمكن على سبيل المثال لا الحصر استحضار مصطلح «ريف دمشق» الذي عملت قوى 14 آذار جاهدة على تنميطه وتسويقه جماهيرياً، كلّما أتت في أدبياتها على ذكر «سوريا البعثية ذات المكوّن الريفي المحافظ»، في ما يشبه الغمز من جهة الرافعة الحضارية والمدينيّة التي يقوم عليها البناء المجتمعي السوري، وخصوصاً إذا ما تمّت مقارنة هذا البناء «الريفي الطابع» بنظيره اللبناني صاحب الهوية الكوزموبوليتية المتعدّدة والمنفتحة على الأفق المديني الأرحب. وهذه إشارة واضحة إلى عمق المأزق الذي بات يواجهه تحالف المال الريعي والإقطاع الطوائفي وأمراء الحرب حيال نظام لم تنفع معه كلّ أساليب المواجهة السياسية التقليدية، فبات لزاماً عليه ــــــ أي التحالف ــــــ ترحيل المواجهة إلى الأفق الحضاري والثقافي والقيمي، وهذا ما لا قبل «للسوريين» نظاماً وشعباً بمجاراته، فكيف بمنافسته و«الانتصار» عليه!
يندرج في هذا الإطار كلام نائب آخر في اللقاء الديموقراطي، أدلى لجريدة «الأخبار»، بتصريح مستفزّ للغاية، ويصبّ في الإطار ذاته من الدجل والتلفيق والتسويق لصورة مشوّهة وزائفة عن دمشق واحتفاليّتها الحالية، حيث يقول: «المشكلة ليست بفيروز، إنما هي أن هذه التظاهرة الاحتفالية في غير مكانها وتوقيتها وموضوعها، وتستثير كل مثقّف عربي، وكلّ من يتمسّك بالحدّ الأدنى من احترام الحريات، كما أنّ المشكلة هي في النظام السوري الذي لا يحتضن المثقّفين، إلا في السجون، والذي لا يمثّل الثقافة العربية التي كانت دمشق عاصمتها». والمشكلة في هذا الكلام ليست في توصيفه لطبيعة النظام السوري، وهو توصيف صحيح إلى حدّ كبير، بل في كونه صادراً عن أطراف تفتقر إلى الصدقية والموضوعية والقدرة على تحليل طبيعة العلاقات السورية ـــــ اللبنانية في طورها الراهن، وذلك بحكم الشراكة التاريخية التي كانت قائمة بين القوى التي ينتمي إليها صاحب الكلام أعلاه، والنظام السوري، وهي شراكة طبعت الطور السابق من العلاقات السورية ــــــ اللبنانية بطابعها «الخاص» و«الاستثنائي جداً».
أما عن كون الاحتفالية بدمشق عاصمة للثقافة العربية قد جاءت في غير مكانها وتوقيتها وموضوعها، فليخبرنا صاحب هذه الكلمات أوّلاً عن رؤيته لهذا التوقيت غير الموفَّق. ربّما يريد له أن يكون حين تستوي شروط الحرب على سوريا الشعب وليس النظام، كما حصل للعراق قبل خمس سنوات. قد تكون أصوات فيروز وعابد عازارية وريم البنا وجاهدة وهبي أجمل بالنسبة إليه حين تختلط بأصوات القنابل الذكية الأميركيّة وهي تنقضّ على «ربيع دمشق» الثقافي، وتحيله خراباً عميماً. قد تبدو هذه الصورة التراجيدية المفترضة على درجة من التبسيط تجعلها أقرب إلى فيلم للخيال العلمي (sciencefiction) منها إلى الواقع الإقليمي الحالي المعقّد والمركّب، لكنها على أية حال، ليست ببعيدة تماماً عن مخيّلة البعض في لبنان (وهي مخيّلة مريضة إلى حدّ كبير) ، وخصوصاً أولئك الذين من فرط حقدهم على دمشق المدينة والناس، راحوا يؤلّبون حلفاءهم في واشنطن مرّة على غزوها وإسقاطها (إسقاط المدينة والشعب لا النظام)، ومرّة أخرى على تفخيخها بالعبوات الناسفة، علّهم يهنأون ويستمتعون برؤيتها تحترق وتتشظّى، كما تشظّت بيروت من قبل وبغداد من بعد، وفي كلتا الحالتين نالوا قسطهم من الغنيمة والرقص فوق القبور.
وفي ما يخص موضوع الاحتفالية، قد يفيد قليلاً تذكير بعض هؤلاء بأنّ الاحتفاء إنما يتمّ بدمشق عاصمة للثقافة وليس بدمشق عاصمة للنظام السوري، الذي يزخر تاريخ بعضهم بامتداحه وامتداح «إنجازاته» في حقّ الثقافة والمثقّفين السوريّين واللبنانيّين على حدّ سواء.
لا أدري لماذا يستكثر هؤلاء على دمشق أن تزهو بالفرح وترفع عنها هاجس الأمن ووطأة الثقافة الرسمية البعثية، ولو لعام واحد. واذا كان مبعث هذا الحقد الاستثنائي على أقدم العواصم العربية وأكثرها مدينية وعراقة هو اتهام النظام الذي يحكم زوراً باسمها بكلّ الجرائم والاغتيالات التي وقعت في لبنان منذ صدور القرار 1559، فلتكن هذه مناسبة لدعوتهم مجدّداً في 14 آذار ــــــ وإن كانت دعوة خارجة عن سياق النصّ ومن غير طائل غالباً ــــــ إلى توسيع دائرة الاحتمالات وإضافة اسمين أو ثلاثة إلى «لائحة» اتهاماتهم الوحيدة والحصرية. ولتكن إسرائيل والمنظّمات الأصولية المدعومة من «الاعتدال العربي» والولايات المتحدة الأميركية في مقدّمة هذه الأسماء، فتاريخ هذه الأخيرة زاخر بقلب الأنظمة المناوئة والحليفة إذا اقتضت الضرورة، وباغتيال الحلفاء قبل الأعداء إذا ما أصبحوا عقبة في إمرار ما يجب إمراره من مشاريع وانقلابات إقليمية ودولية.
عود على بدء، لا يمكن في حال من الأحوال اختزال ما تمثّله فيروز بأطيافها المتعدّدة إلى بعد واحد، أو موضعتها في خانة سياسية محدودة وضيقة الأفق ولا تمتّ بصلة إلى تاريخ هذه السيدة القريب أو البعيد، وهو تاريخ كثيراً ما كان نابذاً للتحزّب والتسييس بالمعنى الضيق للكلمة، ومحفّزاً على التواصل والتآخي والوحدة، وإن كانت وحدة مشوبة أحياناً بنزوع قسري أملته شروط اليوتوبيا الرحبانية الصارمة.
وبمعزل عن كلّ الجدل الذي أثارته وتثيره هذه العودة المرتقبة، فإنّ الأولوية هنا يجب أن تكون لإعادة وصل ما انقطع بين فيروز وعشّاقها في سوريا، والانقطاع هنا يرتدي معنى زمنياً أكثر منه عاطفياً، فالمكانة التي يحتلّها صوت فيروز في وعي السوريّين وذاكرتهم الجمعية لا ينازعه عليها أحد، ولم تستطع سنوات ابتعادها الطوعي عن دمشق ــــــ أي فيروز ــــــ زحزحتها قيد أنملة، لذلك قد يكون من المفيد للغاية العمل على تثمير هذه الناحية الشعورية، والإفادة منها في مواجهة سيل الدعايات المغرضة التي اتخذت من زيارة فيروز إلى دمشق ذريعة لتسويق أقاويل تحرّض على الضيف والمضيف (الشعب لا النظام) في آن واحد، وذلك عبر الإيحاء بأن هذه الحفلات قد تسهم من دون قصد في ترميم صورة النظام السوري، والتسويق لفكرة دعمه للفنّ والثقافة والتعدّدية... فيما يقبع الكثيرون في سجونه، لمجرّد أنهم قالوا رأياً مخالفاً أو نظّموا تجمّعاً سلمياً معارضاً. هذا الزعم البائس والمبتذل للغاية يتغافل عن حقيقة أساسية، مفادها أن صورة فيروز تكاد تكون الوحيدة التي لم تتعرض للعطب خلال السنوات الثلاث التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري وإيصال العلاقات السورية ــــــ اللبنانية إلى القعر الذي وصلت إليه، وهذا ما جعل تلك الصورة وصاحبتها بمنأى تماماً عن حال الانشطار والتشظّي التي باتت عليها القوى السياسية المتصارعة في لبنان حالياً. فكما استطاع صوت فيروز أن يجمع المحتربين والواقفين على
خطوط التماس في بيروت أثناء الحرب الأهلية المريرة، يمكن له مجدّداً أن يسهم ولو بشكل رمزي في إعادة وصل ما انقطع بين شعبين شقيقين، قد يختلفان في كل شيء ــــــ وهذا أمر غير حقيقي وغير منطقي على الإطلاق ـــــ لكنهما حتما يتّفقان على صوت هذه السيدة، بمرحلتيه اليوتوبية مع الأخوين رحباني، والواقعية المفرطة مع زياد الرحباني.
وفي انتظار تحقيق هذه الأمنية البعيدة المنال وإن تكن غير مستحيلة، نقول لفيروز: لا تعبئي بترّهاتهم، وأهلاً بك إلى دمشق: «مدينتك وأغنيتك الأجمل».
* كاتب سوري