منذر سليمان *
يستمرّ المشهد الأميركي بإضفاء الإثارة وإطلاق موجة من الاجتهادات والتفسيرات المتضاربة عن الوجهة المحتملة لسياسة إدارة الرئيس بوش الابن نحو المنطقة في الباقي من عهده الثاني والأخير في البيت الأبيض. ودأبت وسائل الإعلام على اختصار المسار الأميركي بمتابعة التركيز على الكيفية التي سيعالج بها الملف النووي الإيراني. وتجري عمليات البحث والتنقيب في ما يصدر عن الإدارة وكبار المسؤولين من مواقف، وإشارات وتصريحات، علّها تساعد على الفهم والتحليل والتفسير. ورغم كثافة المشهد السياسي الأميركي الراهن حيث تتقاطع فيه، لا بل تتزاحم معطيات غنية ومتضاربة، يبقى الاصطفاف في التفسير والتأويل ثنائي الخيارات، بين من يعتقد أن الرئيس بوش سيلجأ عاجلاً أم آجلاً للخيار العسكري ضدّ طهران، فيما يطلق عليه البعض خيار الألف غارة جوية وصاروخية، على أهداف إيرانية حيوية ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمشروع النووي، وفي مسعى إجهاضي أو تأجيلي لبرنامج نووي عسكري إيراني. ومن يجزم من جهة أخرى باستبعاد لجوء الإدارة للخيار العسكري لأنها عاجزة وغير قادرة على تحمّل التكلفة الباهظة التي ستنجم عنه، وتلحق الأضرار الجسيمة بها وبحلفائها في المنطقة.
معطيات المشهد الأميركي الناظمة لحركة الإدارة أو المؤثرة في توجّهاتها وخياراتها يمكن تخليصها بالآتي:
رئيس مكابر ومعاند يعتقد بـ«كونية القيم الأميركية» وبأنّه مفوّض أو مختار من الله والتاريخ لتعزيز هذه القيم وتعميم النموذج الأميركي في المعمورة طوعاً أو إكراهاً. وسيبقى يتصرّف حتى آخر لحظة من حكمه كأنه في حالة تأهّب دائمة لتنفيذ هذه المهمة الرسولية، لا يأبه بالكوابح والضوابط التي باشرت السلطة التشريعية التي انتقلت للحزب الديموقراطي، ممارستها على عهد تحرّر منها خلال السنوات الست المنصرمة، واعتاد غياب المساءلة والمحاسبة. للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية، نشهد بداية مبكرة جدّاً للحملة الانتخابية، مقرونة بتوافر مروحة واسعة من الخيارات لدى الحزبين على صعيد المرشّحين، يترك باب التوقعات عريضاً على المفاجآت بمن سيفوز بالسباق الداخلي لدى الحزبين في الانتخابات التمهيدية. يضفي هذا الأمر على الحملة الانتخابية الرئاسية بعداً مثيراً وجاذباً لاحتلال ومساحة أوسع من المألوف في التغطية والتركيز الإعلامي، تجعل من الرئيس بوش أكثر من «بطة عرجاء» في التسعة شهور الأخيرة من عهده، فمن المرجح أن يتحول إلى «بطة كسيحة» ورهينة لحسابات الحزب الجمهوري الانتخابية الضاغطة، لتجنب اتخاذ مواقف أو إجراءات قد تهدد فرص مرشح الحزب الجمهوري العتيد في الفوز.
وسيُجبر الرئيس بوش على الدخول في منافسة غير متكافئة في الإعلام الأميركي لجذب الأنظار إلى موقعه ومواقفه ما سيعزّز الانطباع بعجزه ومراوحته في المكان نفسه. وكان لافتاً ما أفصح عنه الوف بن شموئيل روزنر في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 4 كانون الثاني الجاري تحت عنوان: المضمون: الصفقة التي ستحاول إسرائيل تحقيقها: تقليص الاستيطان، مقابل سيطرة عسكرية طويلة المدى على الضفة. «من القدس يبدو بوش زعيماً شديد القدرة، هو وحده يمكنه أن يحرّك المسيرة السياسية من جمودها وفرض النظام في المنطقة. من أميركا يبدو كمن كان كرئيس، قراراته تثير أقل فأقل من الاهتمام. الوصفان صحيحان. رئيس أميركي ضعيف هو الزعيم الأهم في العالم. لكن قدرته على الإقناع محدودة، مثلما عرف سلف بوش بيل كلينتون في جهوده للحظة الأخيرة لتحقيق سلام بين ايهود باراك وياسر عرفات».
الارتباك عنوان المرحلة
لم يكد يجفّ حبر بيان التفاهم الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي الذي انتزعه الرئيس بوش بشق النفس في آخر لحظة قبيل افتتاحه لمهرجان أنابوليس، حتى افتضح أمر ارتباك الإدارة، وحدود قدرتها على استثمار المشهد الاحتفالي المتقن، لتبرير استدعاء 16 دولة عربية مع جامعتهم (التي لا تتذكر الإدارة وجودها إلا عند الحاجة إلى توظفيها في تسويق أجندتها عربياً) لتقديم فروض الولاء والطاعة والاستعداد الجدي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، مقابل وعود معسولة بإطلاق عملية تفاوضية على المسار الفلسطيني بشأن هدف «دولة فلسطينية افتراضية أو مؤقّتة» (ربما في كوكب المريخ).
فقد سحبت واشنطن مشروع بيان رئاسي قدمته عبر مندوبها في الأمم المتحدة، لإضفاء مسحة دولية بإضافة ختم صوري للأمم المتحدة على أنابوليس، وكشفت عن جوهر ما يمكن أن تفعله ميدانياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما بقي لها من الوقت الضائع، حيث عيّنت جنرالاً كان مسرح عملياته في أوروبا وأفغانستان، بدلاً من منسق «خبير» في شؤون المنطقة. لقد عدنا للمقاربة الأمنية وبوابة «محاربة الإرهاب الفلسطيني» مدخلاً وشرطاً واختباراً للإفراج عن خارطة الطريق التي غطّاها غبار التجاهل ولوّنتها دماء الضحايا الفلسطينيّين ودموعهم، على مذبح التفاوض المزعوم، تسفكها الآلة الحربية الصهيونية دون رادع.
وهكذا عاد سراب الدولة الفلسطينية ينسج بمراوغات الاتحاد الأوروبي عبر الديماغوجي الأول طوني بلير، الذي وجد ضالته بمنصب يؤمّن له السياحة المجانية، ويبقيه في دائرة الضوء الذي اعتاد بريقه، حين كان يخدم بجدارة كوزير خارجية احتياطي متنقّل ورديف لإدارة بوش (حتى لا نصفه بالشائع عنه) عندما كان رئيساً للوزراء في بريطانيا، ويساعده الجنرال الأميركي المراقب لمهمة جنرال ميداني أميركي آخر هو دايتون، يسهر على بناء الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية. اذاً يعود التفاوض الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي إلى مربّع الاختبارات الأمنية للجانب الفلسطيني، مضافاً إليه امتحان السلطة الفلسطينية على مدى استعدادها للتوغّل في مهمة قذرة لإشعال فتنة فلسطينية داخلية، أو تواطؤ أمني مساعد على تصفية ناشطي ما بقي من الجسم الفلسطيني المقاوم.
لم تكتف حكومة أولمرت بالضغط لسحب ختم الأمم المتحدة عن أنابوليس، بل نسفت أيّ أوهام أو آمال قد علقت بأذهان السذج عن إنجاح عملية الإطلاق الاحتفالية للتفاوض، حين أصرّت على توسيع المستوطنات المحيطة بالقدس. وما كادت إدارة بوش تعبّر عن تلعثم فاضح في خطابها، لتبرير عجزها عن تجميد اندفاعات أولمرت الساعي إلى صيانة مركزه المهتزّ بالفضائح الداخلية، عشية موعد منتظر للفضيحة الكبرى بالكشف عن تقرير «التقصير الأخطر» الجديد للجنة فينوغراد، عن الفشل الذريع في حرب لبنان العدوانية تموز 2006، حتى صدر التقدير القومي للاستخبارات القومية الأميركية بشأن «نيّات إيران وقدراتها النووية» مثيراً زوبعة إعلامية وسياسية أميركية، إقليمية، وعالمية، لم تهدأ آثارها بعد.
ما أحرج إدارة بوش وأخرجها مهرولة إلى عقد مؤتمر صحافي على عجل، في محاولة شبه يائسة لحصر الأضرار التي لحقت بها، من جراء تكذيب التقرير لمزاعمها خلال السنوات الأربع الماضية عن الملف النووي الإيراني. ما أحرج الرئيس بوش ونائبه وفريق الحرب في إدارته، هو ذهاب التقرير في نقطته الأولى إلى الاستنتاج بأن الاستخبارات الأميركية «تقدّر بدرجة عالية من الثقة أنّ طهران قد أوقفت في خريف عام 2003 برنامجها السري للأسلحة النووية».
الضحية الأكبر لتقرير الاستخبارات: حلف المعتدلين
لقد بدّد تقرير الاستخبارات في لحظات ما بنته الإدارة في سنوات، من تعبئة مشحونة بنبرة التهديد والتلويح بالخيار العسكري ضد طهران، بذريعة أنها تخفي برنامجاً سرياً لتطوير السلاح النووي. فجأة لم تعد حتى إجراءات التفاهم بالضغوط، وترتيبات وقرارات العزل السياسي والدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية على طهران، محلّ تقدير واعتبار وتقبّل من جانب العديد من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وفي مقدمتهم الصين وروسيا. لقد منحت الاستخبارات الأميركية ذخيرة إضافية لقوى كانت تتحفظ على نهج واشنطن المتشدّد حيال طهران، تساعدها على عرقلة أي توجهات إضافية لتشديد العقوبات الاقتصادية.
تقرير الاستخبارات جعل وكالة الطاقة الذرية ورئيسها محمد البرادعي في مأمن ولو مؤقتاً من الحقد الجارف عليه، بسبب مواقفه المهنية حيال الملف النووي الإيراني، ومنحه فسحة للتصرف بمسؤولية دون ضغوط وتهديدات وحملات إعلامية موجّهة ومركّزة ليخضع بالكامل لرغبات إدارة بوش وتعليماتها. وتقرير الاستخبارات برّأ ولو مرحلياً ساحة الرئيس الإيراني، وعزّز موقفه داخلياً، تجاه المحاولات المتكرّرة لوضعه في قفص الدفاع عن ركوب مركب المغامرة والتهور في معالجة الملف النووي. لكن الأمر الأكثر إيذاءً لنهج الإدارة ومخططاتها في المنطقة هو تصدع التحالف الذي سعت إلى نسجه عربياً وانفراطه، تحت مسمّى حلف المعتدلين لتحقيق ما يمكن تسميته إجماعاً استراتيجياً جديداً ضد طهران، تكون فيه الدول العربية منخرطة في تحالف غير معلن مع الكيان الصهيوني، وتفاهم ضمني مع تركيا، برعاية أميركية على المستوى الإقليمي، في محاولة لتقليص التمدّد أو النفوذ الإيراني الفعلي أو المزعوم، وتهيئة المناخ الملائم لتقبل اللجوء إلى الخيار العسكري وتبعاته.
إبعاد شبح الحرب
البعض نظر إلى التقرير بعين الشك والريبة باعتباره خدعة بارعة مدبرة بتواطؤ بين أجهزة الاستخبارات والإدارة، لتوفير غطاء لتراجعها المرتقب عن اعتماد الخيار العسكري ضدّ طهران تمهيداً لفتح الباب أمام إبرام صفقة إقليميّة واسعة تؤدّي إلى التفاهم الأميركي ــــــ الإيراني على كلّ نقاط الخلاف والتجاذب بينهما، من لبنان إلى فلسطين إلى العراق، إضافة إلى معالجة هادئة للملف النووي وتجميد العقوبات الاقتصادية على طريق إلغائها. كما جرت الإشارة إلى أن التقرير يدخل في باب «الحرب النفسية المتقنة لتقديم معلومات مضلّلة» يمكن تفسيرها في مختلف الاتجاهات، وخاصّة أن التقرير يشير في نقاطه الأخرى إلى «ترجيح أن تتمكّن إيران من امتلاك التقنية لإنتاج اليورانيوم العالي التخصيب والضروري لإنتاج السلاح النووي في الفترة ما بين 2010 ـ 2015. لكن قد تتمكّن من ذلك بدرجة معتدلة الثقة في أواخر عام 2009... ولا تستطيع الاستخبارات الحكم بثقة كافية إذا كانت طهران ستستمر في وقف برنامجها النووي التسليحي السري إلى ما لا نهاية ... أي إنها قد تحتفظ بخيارات تدفعها إلى الإسراع في تجديد برنامجها عندما ترى الوقت مناسباً». لن يفيدنا كثيراً التوغل في غابة البحث عن الدوافع الكامنة وراء صدور تقرير الاستخبارات الأخير وتوقيته، فالحرج والإضرار بسمعة الإدارة وموقفها قد تحقق ولن يستطيع الرئيس بوش ردع البيروقراطية الأميركية، عنصر الديمومة للمؤسسات، من ممارسة أشكال التمرّد، أو صون المواقع الثابتة في الجسم البيروقراطي (غير التنفيذي). فالإدارات تأتي وترحل والجسم البيروقراطي قائم ومستمرّ، وغالباً ما يكون هو العجلة المحرّكة لكل الإدارات رغم التعيينات السياسية على رأس الجسم. يساعد هذه البيروقراطية استعادة قدر من التوازن بين السلطات بعد 7 سنوات مارس فيها بوش وتشيني نوعاً من الحكم الإمبراطوري المطلق تحت مظلة الحاجة إلى الرد على هجمات الحادي عشر من أيلول ومنع تكرارها.
خطاب الصورة ونصف خطوات التفاهم
هذه الإدارة مغرمة بإتقان تغطية عجزها وفشلها، وتوظيف موقع ووزن وإمكانات السلطة والرئاسة في تزيين وتجميل الصورة التي تحلّ مكان خطاب اللغة القاصر والوقائع المريرة والعنيدة، لنتذكّر كيف خاطر بوش وقطع آلاف الأميال ليهبط بطائرته تحت جناح التسلّل في قاعدة صحراوية عراقية معزولة، لينتزع الصورة مع زعيم «الصحوة» ستار أبو ريشة الذي لم يهنأ طويلاً باستثمار المصافحة الودودة مع الرئيس بوش، حيث لاحقته لعنة اللقاء وأودت بحياته. ولنتذكر المشهد الاحتفالي المتقن في مهرجان أنابوليس الخطابي. هذه الإدارة لا تعترف بأن مشروعها للعالم والمنطقة المتمثل بتحويل القرن الواحد والعشرين أو نصفه، إلى زمن أميركي جديد ومهيمن، يعاني حالة تراجع وانكفاء استراتيجي بعد انكشافه وهزيمته في ميادين التماس الساخنة. ويجهد الرئيس بوش وكبار معاونيه لإظهار قتالهم التراجعي لتخفيف وطأة الاندحار وتأجيل السقوط إلى الهاوية، وكأنه هجمات تكتيكية ناجحة تبشّر بالنصر الأكيد. يبدو بالفعل أن الرئيس بوش ومن يؤيد سياسته في غفوة أو غفلة تحجب عنهم رؤية الواقع على حقيقته. ويتحفّز الآن للقيام بجولة تفقدية على مستعمراته الفعلية والافتراضية في الوطن العربي في رحلة وداعية ستكون مشحونة بخطاب الصورة الذي ينشده. هو يخشى أن يقبض التاريخ الذي لا يرحم عليه، ويحاكمه بقسوة وبشاعة على ما اقترفت يداه. رغم أوهامه عن إنصاف لاحق قد يجزيه بعض كتاب التاريخ والمذكرات.
* باحث ومحلّل في شؤون الأمن القومي