عصام نعمان *
لا غلوّ في القول إنّ إسرائيل أعلنت الحرب على شعب غزة. الحرب المعلنة اتخذت أشكالاً عدّة، ليس أقلّها الحصار الصارم، وإغلاق المعابر، والتوقّف عن تسليم الوقود والمواد التموينية، وقطع الكهرباء، ما أدّى إلى تعطيل المرافق العامّة والخاصّة جميعاً، من مستشفيات وعيادات وآبار مياه وأفران ومصانع ومنازل ومتاجر. غزّة أصبحت «تعيش» في بحر من الظلام وفي جوع وعطش وضنك عيشٍ ومهانة.
هكذا تستهدف إسرائيل شعب غزّة بأسره، ولا تتوانى عن قول ذلك علناً، بل إنّ الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية لا يتحرّج من ابتزاز حركة «حماس» بقوله: «الكرة في ملعبهم... إذا أوقفوا الصواريخ اليوم، كل شيء سيعود إلى طبيعته»! ماذا عن مئات الصواريخ الإسرائيلية وقذائف الدبابات التي تنهال على المدنيين الأبرياء، على منازلهم ومدارسهم ورياض أطفالهم، بأعداد تفوق أضعاف أضعاف ما يقذفه الفلسطينيون على مستعمرة سديروت؟
إيهود أولمرت ووزير حربه إيهود باراك هدّدا، عبر «يديعوت أحرونوت»، «بوقف كل عمليات إطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية وإلاّ فإنها (إسرائيل) ستبدأ في اغتيال قيادتها («حماس») السياسية وتصفيتها».
التهديد باغتيال القادة لا يتوقّف عند «حماس»، بل يتناول حزب الله في لبنان أيضاً. ذلك أنّ ثلاثة وزراء إسرائيليّين طالبوا علانية بتصفية السيد حسن نصر الله، بل إنّ وزير الشؤون الدينية إسحق كوهين تساءل بدهشة: «لماذا ما زال على قيد الحياة؟ كان يجب تصفيته منذ زمن طويل»!
كل هذه الممارسات والتصرّفات الوحشية كشفت عودة إسرائيل إلى اعتماد سلاح القتل وسفك الدماء سبيلاً لمحاربة أعدائها، حتى لو اقتضى ذلك تجويع المدنيين وتعطيشهم وبالتالي إبادتهم بالموت البطيء غير الرحيم. هذا التطوّر الوحشي الصهيوني في التفكير والتدبير أخذ يلقى ردود فعل بالغة الحدّة والتطرّف لدى قطاعات شعبية واسعة في فلسطين وبلاد العرب. ثمّة دعوة متصاعدة النبرة إلى أن يفعل الفلسطينيون والعرب بإسرائيل ما تفعله بهم عمداً وعن سابق تصوّر وتصميم. ألم يهدّد قادة «كتائب القسام» في «حماس» و«سرايا القدس» في «الجهاد الإسلامي» بنقل الحرب إلى داخل إسرائيل ردّاً على قيامها باستهداف الفلسطينيّين المدنيّين بلا هوادة، وباغتيال قيادات المقاومة المدنية والميدانية بواسطة الطائرات والمروحيات الحربية، ما أدّى أيضاً إلى إزهاق أرواح كثير من المدنيين الأبرياء؟
ازداد أهل الممانعة والمقاومة حنقاً ومرارة إزاء عدم مبالاة الشبكات السياسية الحاكمة في بلاد العرب بالوضع الكارثي لشعب غزة المجاهد. فرغم نداءات قادة «حماس» وحتى محمود عباس، فقد اكتفى الحكّام العرب بدعوة مجلس جامعة الدول العربية إلى الانعقاد على مستوى المندوبين. ولم يتوانَ رئيس حكومة السلطة الفلسطينية سلام فياض عن القول إن استمرار إطلاق الصواريخ المحلية على إسرائيل هو الذي يجلب الويلات على الفلسطينيّين. أمّا تهديد عباس بدعوة مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد فليس من شأنه أن ينتج موقفاً دولياً إيجابياً، لأنه سبق لإدارة بوش أن برّرت جرائم إسرائيل في غزة بأنها من قبيل الدفاع عن النفس.
لعلّ أكثر ما استوقف المراقبين من المواقف، ذلك الذي أعلنه قائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله في ذكرى عاشوراء. فقد وجّه نصر الله، ثلاث رسائل، كان من شأنها «رفع مستوى السخونة في المواجهة مع إسرائيل: الوضع الخطير في غزّة، وخروقات إسرائيل المتكرّرة للأراضي والأجواء اللبنانية، وملفّ الأسرى لدى العدو الصهيوني. ولعلّ أخطر ما قاله نصر الله إن المقاومة في لبنان، باعتبارها جزءاً من الشارع العربي، لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء استفراد إسرائيل بالفلسطينيين والمقاومين في غزة. وقد فسّر بعض المراقبين كلام قائد المقاومة اللبنانية بأنه إنذار إلى الإسرائيليين بأن المقاومة في لبنان، التي تملك قدرات وإمكانات وخبرات ونفوذاً، ستقدّم عوناً في هذا السبيل للمقاومة في فلسطين. وإذ أشار نصر الله أيضاً إلى خطّة وضعتها المقاومة لردع الخروقات الإسرائيلية للأراضي والأجواء اللبنانية، فقد ذهب بعض المراقبين إلى تفسيرها بأنها سوف تنعكس على المستوطنات الإسرائيلية الشمالية، وقد تكون مدخلاً للاشتباك مع إسرائيل على نحوٍ يخفّف من ثقل الضغط الذي تمارسه على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
إن موقف قائد المقاومة اللبنانية المتقدّم حيال مسألة الوضع الكارثي في غزة واحتمال تدخله لتقديم العون لأهل القطاع ولمنظّمات المقاومة فيه يطرح سؤالاً عن مدى تجاوب سائر منظمات المقاومة في محيط فلسطين القومي مع دعوة متصاعدة لوضع القضية في عهدة الشعوب، والانطلاق إلى توسيع رقعة الاشتباك مع العدو الصهيوني على جميع الجبهات. السؤال نفسه مطروح على «القاعدة» ومدى استعدادها، رغم تحفّظها على حزب الله ومقاومته اللبنانية وعلى منظّمات المقاومة الفلسطينية، للمشاركة في خطّة استراتيجية متكاملة لمقاتلة إسرائيل.
الحقيقة أن «القاعدة» تمارس في بلاد المسلمين سلوكية راسخة هي عدم التحرّج من ضرب منظمات إسلامية مشابهة لها في مقاتلة الاحتلال الأميركي إذا رفضت الاندراج فيها أو العمل تحت قيادتها أو التنسيق معها.
في العراق مثلاً، رفضت تنظيمات المقاومة العمل تحت قيادة الزرقاوي يوم كان يدّعي تمثيل «القاعدة» في بلاد الرافدين، ذلك أنّه أحرجها بتركيزه المبالَغ فيه والمتطرّف على ضرب أفراد وجماعات من الشيعة بدعوى أنهم متعاملون مع الاحتلال. فـ«القاعدة» والذين يذهبون مذهبها في «الجهاد» لا يفرّقون بين الاحتلال الأميركي والمتعاملين معه أو حتى المتهاونين في محاربته. فهي وأنصارها لا يتعاطون السياسة ولا يعرفون أساليب الدبلوماسية ولا يتعرّفون إليها. ذلك قادها في بعض البلدان والأحيان إلى الانشغال عن مقاتلة العدو الأجنبي بمكافحة المنافس المحلّي الذي يحاربه. مع ذلك، بدا أحياناً أن لعدم التحرّج من مقاتلة الإخوة في الكفاح ضد الأجنبي المحتل استثناء واحداً حصل في فلسطين. السبب؟ غياب الاحتكاك مع قوى المقاومة الفلسطينية نتيجة امتناع «القاعدة» عن ممارسة نشاط قتالي ظاهر ضدّ الكيان الصهيوني مدةً طويلة، الأمر الذي أثار عند البعض تساؤلاً وعند البعض الآخر ريبة وحذراً. غير أن أنصـاراً لـ«القاعدة» فسّروا امتناعها عن مقاتلة إسرائيل علناً بأن المقاومة الفلسطينية، ولا سيما الإسلامية منها، تقوم بواجبها بشجاعة وجدارة، فلا لزوم لمنافستها في هذا السبيل.
أخيراً غادرت «القاعدة» والذين يحسبون أنفسهم معها موقف الامتناع، وأخذوا يقومون بعمليات من خارج فلسطين ضدّ إسرائيل، ثمّ اتبعوها بعمليات داخل فلسطين، في قطاع غزة تحديداً، ضدّ مؤسّسة يعدونها أميركية. كل ذلك بعدما أعلنت بلسان «فتح الإسلام» أنّ «مجلس الشورى(...) قرّر تعيين الشيخ عبد الرحمن الغزاوي أميراً للمجموعة في فلسطين».
لا يمكن القول إن تنامي حضور «القاعدة» ومتفرعاتها في فلسطين المحتلة، وخصوصاً في غزة، قد جرى بموافقة حركة «حماس» أو بمعرفتها، ذلك أن وزارة الداخلية في حكومة إسماعيل هنية استنكرت بشدّة عملية اقتحام المدرسة الأميركية، ووصفتها بأنها «عمل إجرامي خطير ومرفوض ومخالف للقانون، ولا يمكن السكوت عنه مهما كانت الأسباب».
هل من صلة، إذاً، لـ«القاعدة» أو لـ«فتح الإسلام» بمحاولة اغتيال إسماعيل هنية التي كشفتها «حماس» أخيراً، أم أن إسرائيل تتلطّى بـِ«القاعدة» ومتفرّعاتها للنيل من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»؟ الاحتمال الأرجح أن تكون إسرائيل وراء المحاولة، لأن إيصال معلومات من دولة أوروبية عن قيام الاستخبارات الإسرائيلية بوضع هنية ورفيقيه على لائحة الاغتيالات يعزّز اتهام إسرائيل قبل غيرها بهذه الفعلة الإجرامية النكراء.
مهما كان الأمر فإن «القاعدة» ومتفرّعاتها صعّدوا في الآونة الأخيرة نشاطهم في أصقاع عدة من العالم الإسلامي. فإلى الجزائر والمغرب وموريتانيا، تصاعد نشاط «القاعدة» في العراق وأفغانستان وباكستان. ويعكس مشروع واشنطن إرسال آلاف من مشاة البحرية «المارينز» إلى أفغانستان قلق الأميركيّين المتزايد من عمليات «طالبان»، وعودة «القاعدة» بقوة إلى النشاط، وعدم الاستقرار في باكستان.
ليست باكستان وحدها ما يقلق جورج بوش، بل إيران أيضاً. ففي أبو ظبي، شنّ عليها الرئيس الأميركي هجوماً عنيفاً، واصفاً إياها بأنها البلد الرائد في دعم الإرهاب، وأنّها تهدّد الأمن في كلّ مكان في العالم. وقال إن طهران «تعوق آمال اللبنانيين في السلام بتسليحها حزب الله الإرهابي»، وحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ولا تلتزم الشفافية في برامجها النووية. وقد تبيّن لاحقاً أنّ لحملة بوش على إيران علاقة بتصاعد المقاومة للاحتلال الأميركي في العراق. فالجنرال دايفيد بيتراوس، قائد القوات الأميركية في بلاد الرافدين، عاد إلى ترديد النغمة السابقة عن دعم إيران للميلشيات الشيعية، ما أدى إلى ازدياد عملياتها ضدّ قوات الاحتلال. ولذلك تساءل: «هل تخلّى الإيرانيون عن فكرة التعاون في العراق»؟
إنّ كلّ هذه التداعيات والتطورات والإشارات توحي بأن نهجاً يلوح في أفق تنظيمات المقاومة، عنوانه العريض إخراج قضايا الأمة من مسؤولية الطبقات السياسية القابضة والفاسدة، ووضعها في عهدة الشعوب، والتعاون فيما بينها على المستويين الإقليمي والدولي لتوسيع دوائر الاشتباك مع العدو الأميركي والصهيوني، والعمل على طردهما من المنطقة.
هل من رهان آخر ؟
* وزير لبناني سابق