إيلي نجم *
ما العمل كي لا يستحيل سجالاً النقد الذي يقوم به العقل الفلسفيّ لتفنيد الإيديولوجيا وفضح ألاعيبها؟ بكلام آخر، ما العمل كي لا يؤول نقد إيديولوجية معيّنة نقداً فلسفيّاً إلى تغليب الإيديولوجيا التي تناصبها العداء؟
بدايةً، يرى بعضهم أنّ من الصعوبة بمكان تحديد مفهوم الإيديولوجيا، ولا سيّما أنّ تصوّرها قد يكون تصوّراً إيديولوجيّاً. لكنّ هؤلاء يغفلون عن أنّه قد يُستَدَلّ بالامتناع عن تحديد الإيديولوجيا من جهة، وبتعليل هذا الامتناع على نحوٍ أو على آخر من جهة ثانية، على تصوّر معيّن لها. حسبنا إذاً أن نعود إلى ما وفّره لنا في صدد هذا الأمر فلاسفة السياسة وعلماء الاجتماع. فهناك الإيديولوجيا الكوسموبوليتيّة أو الكونيّة والأمميّة والعالميّة والدينيّة والقارّيّة والقوميّة والعرقيّة والطائفيّة والإقطاعيّة والبورجوازيّة والعمّاليّة البروليتاريّة والعشائريّة والقبليّة والعائليّة والنسويّة والفرديّة وخلافها. وعليه، تبدو الإيديولوجيا منظومة من التصوّرات، القاصرة على مجموعة من الناس، وفي حدّها الأقصى، على كلّ البشر، والموضوعة في خدمة مصالح هذه المجموعة وغاياتها العمليّة اليوميّة بوجه مصالح المجموعات الأخرى وغاياتها العمليّة، أو في خدمة مصالح النوع البشري بكامله (كبعض الإيديولوجيّات المحكومة بالنَزْعة الإنسانيّة) بوجه مصالح بقيّة الأنواع الحيّة.
وكان كارل ماركس وفريديريك إنغلز قد قرّرا أنّه يكفي، من حيث المبدأ، أن يقوم العقل بتوصيف منظومة من التصوّرات السائدة بأنّها إيديولوجيا حتّى تتهافت وتسقط. الحقّ أنّ توصيف الإيديولوجيّات ضروريّ، لكنّه ليس كافياً. ولا بدّ بدايةً من طرح السؤال: مَن المستفيد مِن تسويق تصوّرات معيّنة والدعوة إليها والاستماتة في الدفاع عنها؟ حتّى نتبيّن غرضيّة هذه التصوّرات، وندرجها بالتالي في خانة الإيديولوجيا، ثمّ يقوم العقل الفلسفيّ النقديّ بتفنيدها وردّها. ونتبع السؤال الأوّل بسؤال آخر: مَن المستفيد مِن توصيفها وتفنيدها وردّها؟ حتّى نرتدّ على الإيديولوجيّات الأخرى التي قامت على أنقاض تلك التي أصابها النقد، لتوصيفها وتفنيدها وردّها. فالعقل الذي بدا للوهلة الأولى عقلاً فلسفيّاً، سرعان ما كشف عورته بعد حين، حين اندرج في خانة جماعة بشريّة معيّنة التمسته واستقْوَت به وسخّرته لخدمة مصالحها. ولم يقصر الأمر على الفلسفة، فقد تمّ أيضاً تغليب الإيديولوجيا على الدين. فالإيديولوجيّات، على تعدّدها وتنوّعها، تتنازع على الفوز بعقول الناس أو بالأحرى بأهوائهم. وقد عمل العقل الدينيّ الأصوليّ مثلاً على تحويل الأديان السماويّة العالميّة إلى منظومات إيديولوجيّة دينيّة.
أضف إنّ نقد العقل الإيديولوجيّ يفترض الوقوف على التقابلات القائمة في الإيديولوجيّات وربط بعضها ببعض بغية ردّها إلى أرومة مشتركة. وقد يخفي تعارض الإيديولوجيّات في ما بينها واقع هذه التقابلات ويحجب حقيقتها، بمعنى أنّنا نرشق الخصم بالتهمة الإيديولوجيّة، ونتوهّم أنّنا نقف على الضفّة الأخرى، ضفّة العقل الفلسفيّ النقديّ. في صدد هذا الأمر، من المفيد التذكير بالسؤال الذي طرحه السيّد المسيح (متّى 7 : 3) : «ما بالك ترى القشّة في عين أخيك، والخشبة التي في عينك لا تراها؟». وعليه، يتعيّن على العقل الفلسفيّ النقديّ التنقّل بين الإيديولوجيّات، وما أكثرها، لفضحها والتشهير بها وتسفيهها، فلا يهادن أو يساوم أو يتقاعس. ولنفترض جدلاً أنّ هذا العمل قد تمّ على الوجه الأكمل، فإنّه يبقى أنّه حيث نَقَضَ هذا العقل وفَكَّكَ وقَوَّضَ، سرعان ما قامَ العقل الإيديولوجيّ بالتركيب والترميم وإعادة البناء. وعلى هذا النحو إلى ما لا نهاية.
فعلى سبيل المثال، كان أفلاطون قد اعتبرَ في محاورة «فيدون» أنّ النفس تعود في الموت وبه إلى ما قبل سقوطها في «سجن» الجسد، أي إلى الحياة الحقّ. وفي المسيحيّة، يَنشُدُ المؤمن العودة إلى ما قبل الخطيئة الأصليّة، إلى جنّة عدن. وفي العقيدة الماركسيّة، يتطلّع المنضوي تحت لوائها، إلى نهاية التاريخ، إلى ما قبل الرأسماليّة والمُلكيّة، فإلى المجتمع اللاطبقيّ، أي إلى المرحلة الشيوعيّة، وقد استدلّ عليها ماركس بالمشاعيّة التي سادت في الماضي القصيّ، وفي العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، إلى ما قبل تقسيم سوريا الطبيعيّة، إلى المرحلة التي شهدت وحدة «الهلال الخصيب». أمّا هوسّيرل، فقد أراد العودة إلى «الأنا المتعالي». وعند هايدغر أنّ الموجود الإنسانيّ يتوق إلى الوجود، إلى مرحلة ما قبل الميتافيزيقا بشقّيها التيولوجيّ الدينيّ والأونطولوجيّ التقنيّ والعلميّ، إلى أولئك الذين سبقوا سقراط وأفلاطون. فهل أضحى المصير عوداً إلى بدء بحيث غدا التاريخ ذاكرة... المستقبل؟
الواقع أنّ العقل الفلسفيّ النقديّ عملَ على اختراق العقل الإيديولوجيّ والنفاذ من الثغر التي أحدثها فيه إلى نقاط مركزيّة في داخله. إلاّ أنّ الثاني لم يلبث أن قضى على الأوّل بعدما أوقعه في حبائله بحيث استحال هذا الأخير عقلاً إيديولوجيّاً سجاليّاً غرضيّاً ومنحازاً، كما مرّ معنا. أضف إنّه غالباً ما مَحَضَ أصحاب الدعوات الإيديولوجيّة العقلَ ثقتهم المفرطة فأمعنوا في إطلاقه من كلّ نسبة، وفي تخليصه من كلّ تحايث. فما العمل إذاً؟
بالنسبة إلى الأمر الأوّل حيث استحال العقل الفلسفيّ النقديّ عقلاً إيديولوجيّاً، يحسن بنا ألّا نحاول اقتحام المركز لمجانبة إقحامنا فيه. وعليه، فحريّ بنا أن نعالج النقاط الدائريّة الواحدة تلو الأخرى، علماً أنّ تقويضها جميعها هو محال. إلّا أنّ المركز لن يعود مركزاً، على الأقلّ بالنسبة إلى تلك النقاط الدائريّة التي يكون قد جرى تقويضها. وهذا يعني مثلاً أن نستعرض الخطابات الإيديولوجيّة المتخاصمة أو المتعارضة بغية إبراز أصلها وفصلها أي تاريخيّتها، والانطلاق منها باتّجاه البحث عن المصادرات الميتافيزيقيّة التي تحمل هذه الخطابات والقائمة وراء ما تراه هذه الأخيرة تحصيلاً حاصلاً وفوق الشبهات. إنّ البحث عن أصل الأمور وفصلها وتقويض المصادرات التي تعمل في الخفاء يعجّلان في تداعي البناء الإيديولوجيّ القائم وربّما في سقوطه.
وبما أنّ العقل عينه هو الذي يقرّر، في كلّ الأحوال، لا بدّ إذاً من أن نيمّم شطر العقل الفلسفيّ النقديّ الذي يبقى أملنا وغايتنا.
* كاتب لبناني