هشام نفاع *
«ابتداءً من يوم نشر هذه الرسالة، يجب على جميع الطواقم التي تنقل مرضى/مصابين على المعابر (الحواجز الاحتلالية) من السلطة الفلسطينية إلى المراكز الطبية في البلاد، أن تستخدم في كل عملية نقل، جميع الوسائل التي تشملها عُدّة الوقاية الفيروسية، وكذلك، تنظيف السيارة وتطهيرها بحسب تعليمات قسم الصحة في معالجة المرضى حاملي الجراثيم المنيعة أمام المضادّات الحيوية».
بهذه العبارات التعميمية، توجّه في السادس عشر من كانون الأول 2007، رامي ميلر، المُسعف الرئيسي في منظمة الإسعاف والإنقاذ الإسرائيلية، «نجمة داوود الحمراء»، إلى جميع المُسعفين الرئيسيين في هذه المنظمة. وقد جاء ذلك رسمياً في رسالة التعليمات الدورية التي تحمل الرقم (17/45).
إذًا، فمن خلال نحو خمسين كلمة، يرسم هذا المسؤول في «نجمة داوود الحمراء» صورة نمطيّة مرعبة للفلسطيني الواقع تحت الاحتلال: شخص يحمل جراثيم خطرة يُحظّر الاقتراب منه من دون وضع أقنعة وقفّازات وأردية الوقاية. بكلمات أخرى: إنه قنبلة جرثومية موقوتة يجب الابتعاد عنها!
لم يفصّل ذلك المسؤول حالات عينية، ولا مواقع محدّدة قد يصحّ موضوعياً تعريفها بالخطرة، ولا فترة زمنية معينة تقتضي التعاطي معها بحذر. لا. بل إنه يرسم خطّاً أحمر حول جميع المناطق المحتلّة منذ عام 1967، ويعلنها معزلاً، أو بؤرة من وباء.
لا نحتاج إلى كثير من الخيال حتى نتصوّر ما ستتركه تلك التعليمات من إيحاءات في الذهن الإسرائيلي المتوسّط، وخصوصاً أنّنا أمام مجتمع تنظر أوساط واسعة فيه إلى العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً باستعلاء مقيت. وهنا، لن تؤدّي تلك التعابير/ السياسة، إلّا إلى إضافة مدماك جديد من شيطنة الفلسطيني وبالوسائل الجرثومية المرعبة هذه المرّة.
منذ مطلع هذا العقد، تنفّذ المؤسّسة الرسمية مشروعاً مبرمَجاً لعزل الفلسطينيين بشكل تام في مناطق 1967. والأدلة لا تنتهي: ابتداءً بإقامة جدار الفصل التوسّعي العنصري، مروراً بقوانين منع لمّ شمل الأسر الفلسطينية حين يكون أحد الزوجين فيها من سكّان مناطق 67، ووصولاً إلى الاقتراح الحكومي الراهن بتمديد القانون الذي يمنع دخول الفلسطينيين إلى إسرائيل لمدّة خمس سنوات إضافية. وهذه مجرّد أمثلة على سلسلة ممارسات منهجيّة طويلة. وهكذا، فلو أخذنا تلك التعليمات المقنّعة بالمهنيّة الطبيّة، لرأينا أنها تنخرط في تلك الممارسات السياسية بسهولة قاتلة. صحيح أنها لم تصدر عن وزارة الصحة، لكنها صدرت عن هيئة رسمية إسرائيلية وتحمل صفة «إنسانية» أيضاً!
إن المناخ العام الذي يسود إسرائيل هو مناخ ملوّث بالعنصرية والاستعلاء وكراهية العربي. وليس من الغريب أن تتلبّد فيه غمامات سامّة كهذه التعليمات العنصرية في «نجمة داوود الحمراء». المخيف في الأمر أن هذه اللطخات الأخلاقية تتفشّى برتابة واعتيادية، بل تبرَّر وتُشرعَن بمزاعم الخوف من الفلسطيني، وهو الذي لا يحتلّ إسرائيل ولا يستوطن جبالها ومروجها ولا يمزّقها بالحواجز والجدران، بل على العكس تماماً. يُحاصَر، يُسجَن، يُخنَق، ويُعلن أنه خطر مُحدق يجب صدّه.
حين يستعيد المرء مقولة أن الاحتلال يشوّه أصحابه أخلاقياً، يُفاجأ في كلّ مرّة. لأن التشوّه يمتدّ على خطّ متصاعد يؤلّف كل مرّة ذروة جديدة من الانحطاط. وها هو الآن يمتدّ كأفعى ليطلّ بأنيابٍ تقطر سُمّاً من هيئة يُفترض أنها تقوم على أسس ومعايير إنسانية وأخلاقية كونية نقيّة من أي انحراف عنصري. لكنّ الانحطاط لن يتوقّف كما يبدو، ما لم تقف هذه المؤسّسة الإسرائيلية، وتوقف مجتمعها معها أيضاً، أمام المرآة لرؤية حقيقة الصورة. حقاً، إن مؤسّسةً ترفض مراجعة ما اقترفته يداها، ولا تزال، وتهرب من الاعتراف بما راكمته من جرائم، هي مؤسّسة تودي بمجتمعها الى إحدى أشدّ الهاويات قتامة وقباحة.
عموماً، أمتنع عن استحضار مقارنات مع النازيّة. لكن لا يمكن هنا إلا التذكير بهذا:
حين بدأ الفاشيون النازيّون بتركيز الضحايا اليهود في الغيتوات والمعازل، ترافق هذا مع آليّات غسل دماغ للمجتمع الألماني. لقد صوّروا اليهودي بأكثر الهيئات قتامة. أحد تكتيكاتهم الديماغوجية المرعبة كان نشر الشائعات المخيفة عن الأمراض المتفشّية في الغيتوات تبريراً لحظر الاقتراب منها ومن سجنائها اليهود. هكذا رفعوا جدران الغيتوات بمداميك جديدة. فهل يتمعّن مسؤولو «نجمة داوود الحمراء» في مرجعيّات تعليماتهم / سياستهم؟
في الثامن من كانون الأول 2005، احتفلت وسائل الإعلام الإسرائيلية بما وصفته «حدثًا تاريخياً». كان ذلك حين تقرّر ضمّ «نجمة داوود الحمراء» إلى المنظمة الإنسانية الدولية الرفيعة «الصليب الأحمر الدولي». بعد سنتين فقط على ذلك «الحدث التاريخي»، تقرّر «نجمة داوود الحمراء»، أيّ باحات التاريخ تختار لها: مزبلته. وهو الموقع الذي لن يتغيّر ما لم يُعاقَب المسؤولون فيها عن جريمة شيطنة الفلسطيني بوسائل جرثوميّة، وبالتالي انتهاك جميع الأخلاقيات، المهنية منها والأساسيّة.
* صحافي فلسطيني