إيلي نجم
نسبيّة ما كان ويكون سرّ الفوز بالسعادة وشرط دوامها

يرى المؤلِّف أنّ انعدام الرضى يرافق حالة الإخفاق والفلاح على السواء، ويشير إلى أنّ الموجود الإنسانيّ يتجاوز أفق العالَم الذي يعيش فيه ويتفاعل معه، بل إنّه يستهدف، وهو «الموجود في العالَم»، ما يقوم وراء العالَم أي المطلق. ثمّ يتناول اختبار الانتظار الخادع الذي تكوّنه الخيبة، ويخلص إلى أنّ المطلق لا يمكن أن يكون على شاكلة هذه التصوّرات. ذلك لأنّ ما نسمّيه المطلق ليس سوى الذات البشريّة التي شاءت لنفسها أن تكون مطلقة بالقَدْر الذي لا تودّ فيه تلك الذات أن تفنى في الموجود الأسمى الذي يمَّمَ شطره الصوفيّون والروحانيّون، كما بالقَدْر الذي لا تودّ فيه أن تعود إلى الأصل الذي تفرّعت منه الكائنات جميعها. ولعلّ هذه الذات تصبو نحو المطلَق الذي لا يعرف التعدّد والتنوّع وبالتالي التبدّل والفساد. أضف أنّ هذا الانتظار الخادع يكشف عن رعونة الرغبة عند البشر، لأنّ ما كان نسبيّاً لا يسعه أن يتطلّع إلى المطلَق. ولأنّ المطلق لا يصير مطلقاً، بل يكون أو لا يكون. وعليه، فانتظار المطلق يميط اللثام عن البنية الأساسيّة للموجود الإنسانيّ، وهي بنية ذات وجهين. فمن وجه أوّل، هناك الواقعة، ومن وجه ثانٍ، هناك المعنى الذي يقابل هذه الواقعة، بحيث يقوم الاختبار البشريّ على السعي إلى تطابق الواقعة والمعنى، علماً أنّ هذا التطابق هو المطلَق المنتظَر، بالقَدْر الذي يحقّق فيه الموجود الإنسانيّ (بواسطة هذا التطابق الذي يَنشده) ذاته أي حرّيّته.
إلاّ أنّ هذا التطابق ليس في متناول البشر، بحسب بولس الخوري. فثمّة فائض في المعنى لا يسعه أن يستحيل واقعة. وهذا يعني أنّ الإنسان معضلة، وليس فقط مشكلة. أي إنّ استيلاد المعنى عسير ومتعثّر، بدليل أنّ الإنسان انخرطَ في العالَم قبل أن يعي حاله، على ما كان قد رأى المفكّر الفرنسيّ باسكال. فكلّ وعيٍ هو وعيٌ لاحقٌ بقِوامٍ سابق. أضف أنّ الإنسان كائن قيد الإنجاز في انتظار أن يكون، ذلك لأنّ جوهره حرّيّة، وقَدَره وقوعه في العالَم والزمان...
لكن ماذا عن الفلسفة التي تقوم بدورها على اختبار الخيبة؟ يقول المؤلِّف إنّها بحثٌ عن المعرفة المطلقة. ولأنّها كذلك، فإنّها تبقى بحثًا، بحثًا فحسب، غير مضمون النتائج، وقد انقطع عن الواقع حين اقتطع منه ما اقتطع، واستطابَ الإقامة في الخطاب إلى أن قصرَ عليه. ويبقى الموجود الإنسانيّ على مسافة من ذاته. أمّا المؤلِّف، فإنّه لا يرى أيّ جواب عن هذا الأمر إلاّ القول: لأنّ الأمر هو كذلك. وقد نُؤَوِّل هذا الموقف في اتّجاهين: فمن جهة، نُعلن وصول الفلسفة إلى طريق مسدود، إلى «طريق لا تُفضي (بنا) إلى مكان»، على ما كان قد رأى هايدغر، فنعرض عنها ونَنْعاها، ومن جهة أخرى، نستعيد السؤال ولا نلحّ على الجواب، فلا يُخيَّبُ ظنّنا ولا تُثبَط عزيمتنا. وهذا لا يعني أن نهجر الفلسفة وننتصر للحماقة، بل أن نبتدع طريقةً جديدة في المساءلة ونتآلف مع تمنّع الإجابة، على طريقة بيرّون (365-275 ق.م.)، الفيلسوف الشكّاك الذي عرف كيف يتفلّت من قبضةِ الوهم المولِّد للخيبة ليبلغ سكون النفس وصفاءها. ولعلّ في التسليم بلاإطلاقيّة ما كان ويكون، سرّ الفوز بالسعادة وشرط دوامها.
* كاتب لبناني





العنوان الأصلي
le fait et le sens. esquisse dune philosophie de la deception
الكاتب:<,/strong>
بولس الخوري
الناشر
لارماتان