عبد الحسين شبيب *
تتوزع التقديرات المتعلقة بمآل الأزمة اللبنانية الراهنة على رأيين: واحد يتفاءل بحصول تسوية وآخر لا يرى ذلك. يستحضر القائلون بالحل مجموعة أدلة يدعمون بها وجهة نظرهم. من هذه الأدلة أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة دفع لبنان نحو توترات محلية تطيح الصيغة القائمة. كذلك ليس من مصلحة الأوروبيين تعريض قواتهم العاملة ضمن «اليونيفيل» في الجنوب لخطر الفوضى اللبنانية. وكلا الطرفين الأميركيين والأوروبيين ليس من مصلحتهما وضع القرار 1701 والحالة التي نشأت في الجنوب في مهب الريح. أما على المستوى المحلي فإن المتفائلين يبنون على رغبة النائب سعد الحريري الملحّة في دخول نادي رؤساء الحكومات لأن الفرصة مؤاتية له حالياً من خلال تسوية مع المعارضة توليه سدة الرئاسة الثالثة قد لا تتكرر في المستقبل. فهناك إحصاءات جدية ذات قدر كبير من الصدقية تعطي قوى المعارضة الحالية الأغلبية في أي انتخابات نيابية قادمة، بمعزل عن أي تقسيم انتخابي يعتمد. فضلاً عن أن هذا الرجل، بعكس حلفائه، يعدّ الأكثر تضرراً ـــــ بالحد الأدنى على مصالحه الشخصية ـــــ من أي خراب يلحق بالبلد. وثمة أدلة أخرى تحشد بين السطور والتحليلات لدعم وجهة المتفائلين.
في المقلب الآخر ينطلق المتشائمون من مجموعة أدلة ومعادلات رياضية تتصل بعلم السياسة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. يرى هؤلاء أن الولايات المتحدة هي التي صنعت الأحداث اللبنانية منذ إصدار القرار 1559 وما تلاه من تطورات دراماتيكية بلغت ذروتها في عدوان تموز 2006، واستتباعاً الإدارة المباشرة لفريق السلطة والدعم اللامحدود لحكومة فؤاد السنيورة وشخصه. ليست الوقائع التي حصلت محض صدفة، بل جاءت في سياق منظّم لتحتل موقعاً مهماً في عملية إعادة تشكيل الخررطة السياسية للشرق الأوسط الجديد والتي أسس لها سقوط بغداد.
من وجهة نظر المتشائمين من الخفّة الاعتقاد أن إدارة جورج بوش ـــــ التي تعاني أزمة إدارة لملفاتها الساخنة في المنطقة وأزمة خيارات في كيفية معالجتها ـــــ ستذهب بسهولة في تسوية غير منطقية مع فريق المحور السوري ـــــ الإيراني في لبنان بعد كل ما فعلته دون أي مقابل يذكر. بعملية حسابية بسيطة فإن واشنطن التي ترى حكومة السنيورة جزءاً من أدواتها تنتظر منذ فترة طويلة لاستعادة الرئاسة الأولى من يد المعارضة لتكمل وضع يدها على مكوّنات السلطة التنفيذية، ثم تتولى لاحقاً أمر السلطة التشريعية. لا تعني التسوية وإنتاج رئيس توافقي فقط خسارة خيار الإتيان برئيس من لون واحد بل أيضاً خسارة الحكومة الحليفة، لأن منطق التوافق حكماً سيسري على الوزارة الجديدة بحيث يكون للمعارضة الثلث الضامن في جزء من التسوية الشاملة. تصبح المعارضة هنا في وضع أقوى مما هي عليه الآن: نصف الرئيس زائد شراكة كاملة في القرار الحكومي زائد سيطرة شبه مطلقة على إدارة المؤسسة التشريعية. ببساطة يعني ذلك خسارة كبيرة لقوى الموالاة ومن ورائهم الظهير الأميركي. هنا يكمن النقاش الحقيقي في أي تسوية. ففضلاً عن مواصفات الرئيس ومواقفه من القضايا الخلافية، وأبرزها العلاقة مع سوريا وسلاح المقاومة، فإن الصراع غير المعلن يتعلق بالإجراءات الواجب اتخاذها دستورياً بعد انتخاب الرئيس التوافقي، أي الحكومة بدءاً من رئيسها مروراً بتشكيلتها، وصولاً إلى بيانها الوزاري. عموماً لا يمثّل رئيس الوزراء الجديد عقدة كبيرة إلا داخل البيت الواحد: أي فريق الموالاة؛ ثمّة معلومات تقول إن الأميركيين أبلغوا من يهمهم الأمر أن رجلهم المفضّل لهذا المنصب هو فؤاد السنيورة، وأن الحريري لم يحن وقته بعد، وثمّة مَن يقول إن الأخير في عجلة من أمره وإنه أساساً ليس على وئام مع صديق والده الشهيد.
بمعزل عن هذا الخلاف، فإن العقدة الأبرز تكمن في تركيبة الحكومة الوفاقية، هذا إذا تم حسم عنوانها: وحدة وطنية أو شراكة وطنية أو وفاقية، وهذا سيعني بأي حال مكسباً كبيراً للمعارضة. إحدى المعضلات هي التالية: على افتراض أن العماد ميشال عون تخلّى عن ترشّحه لمصلحة رئيس يكون له دور أساس في تزكيته (وهو أمر صار ثمنه أكبر بعد تثبيت ترشحه باسم المعارضة مع انتهاء مفعول المبادرة الإنقاذية التي قدمها)، فإن المقابل المؤكد على الأقل هو منح غالبية الحصة الوزارية المسيحية، إن لم يكن كلها، لعون باعتباره زعيم أغلبيتها الشعبية. هل يمكن أن يوافق مسيحيو السلطة على التنازل عن حجم تمثيلهم، وهو سؤال طبعاً موجّه إلى سمير جعجع على وجه الخصوص، لإنجاز التوافق على حسابه؟ ثمّة مَن يقول إن بعض الأطراف الخارجية تتولى ترتيب أمر هؤلاء. ومع الافتراض أنه تم تذليل جميع العقبات المتعلقة بالتشكيلة الحكومية ووصل الأمر إلى البيان الوزاري، فإن السؤال المطروح هو الآتي: هل يمكن إنجاز بيان يضمّ تحت سقفه مشروعين متناقضين: واحد يطالب بحفظ سلاح المقاومة ودعمه وآخر يطالب بنزعه؟ بمعنى آخر هل يقبل الأميركيون بياناً وزارياً جديداً يعطي مشروعية للمقاومة أو على الأقل يغض النظر عنها؟ وهل يقبل فريق المقاومة التنازل في هذا الملف الذي كما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ضمناً إنه ملف يمثّل الموقف منه عصباً رئيساً في أي نقاش، لا على شخص رئيس الجمهورية فحسب ولا الحكومة وبيانها الوزاري أيضاً، بل يمتد حكماً إلى قيادة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي درجت العادة على إنجاز تشكيلات فيها مع انتخاب رئيس الجمهورية؟
الإجابات عن سلّة الأسئلة هذه تمثّل جهاز قياس لحجم ربح وخسارة كل طرف معني بالأزمة الراهنة. قد توجد مصلحة أميركية في تجميد الاستحقاق اللبناني عند تسوية يمكن التنصل منها بسرعة، عندما تبلور الولايات المتحدة خياراتها الأساسية في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني والملف العراقي والملف السوري.
الشك في النوايا الأميركية في محلّه. فأولاً، حديث الحرب على إيران وسوريا وحزب الله لا يغادر مراكز صنع القرار الأميركي والإسرائيلي، وإن كانت هناك آراء تتوزع بين مؤيد ومعارض، لكن نفاد الوقت قبل انتهاء ولاية جورج بوش يحتّم فعل شيء عاجل.
ثانياً، حديث التسوية لم ينضج بعد، وهي إن حصلت فليست من نوع أن تقدم واشنطن استحقاقاً رئاسياً لسوريا مثلاً مقابل دور للأخيرة في العراق، ولا هو الثمن الذي تريده دمشق فقط. في التسعينيات فُوّض إلى سوريا أمر لبنان كاملاً مقابل موقفها من الحرب ضد صدام حسين بعد غزوه الكويت. وإذا كان من حديث عن تسوية كبيرة في المنطقة فإن الأثمان تكون أكبر بكثير مما يجري تداوله حالياً.
ثالثاً، ليس لبنان في رأس قائمة الأولويات الأميركية إلا بما يمثّل خطراً على إسرائيل. والأخيرة حالياً تجري نقاشات على مستوى طواقمها الوزارية المصغرة للنظر في أخطر معادلة تواجه الدولة العبرية: جمهورية إسلامية تطالب بإزالة إسرائيل عن الخريطة السياسية وعلى قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي. لا خطر وجودياً كمثل إيران التي يصل نفوذها حسب الأدبيات الإسرائيلية إلى مياه المتوسط والحدود الشمالية للجيش الإسرائيلي. إذا انتهت المداولات الإسرائيلية إلى قرار بتوجيه ضربة إلى إيران فالأرجح أن الأخيرة ستردّ على الأميركيين. حينها تصبح المنطقة في قلب العاصفة. لبنان في هذه الحالة مثله مثل أي بلد عرضة للتأثيرات، خصوصاً إذا ما ذهب الإسرائيليون إلى قرار بحرب جديدة على حزب الله أو سوريا أو الاثنين معاً.
وعليه فإن الأميركيين ليسوا معنيين بإعلان خسارة جديدة عبر تقديم تنازلات في لبنان تنتج تسوية لمصلحة المعارضة، وقد يكونون مقبلين على عملية تغير وجه المنطقة كلها. وإذا كان مؤتمر أنابوليس الذي ربط به الملف الرئاسي يعبر عن حجة أميركية ولو لصورة علاقات عامة يتوزع مكاسبها كل من جورج بوش وإيهود أولمرت، فإن تمسك الولايات المتحدة بمكاسبها في لبنان، ولا سيما بعد قبض حكومة فؤاد السنيورة على كرسيي السلطة الإجرائية الأولى والثالثة، سيكون بالتأكيد نقطة الارتكاز الحقيقية في أي نقاش يعاد إطلاقه بشأن رئاسة الجمهورية وما يليها، وبالتالي تمركز عرقلة أي حل في واشنطن دون سواها انطلاقاً من حساباتها المتصلة بملفاتها الإقليمية، سواء ذهبت إلى تسويات كبرى أو إلى حروب كبرى أيضاً.
* إعلامي لبناني