محمد سيّد رصاص *
كان حدث سقوط بغداد مفصلياً في تاريخ المعارضة السورية، من حيث انزياح أطراف كثيرة منها باتجاه المراهنة على المشروع الأميركي بالتزامن مع دخول السلطة السورية في تعارضات مع واشنطن في قضايا المنطقة الإقليمية، فيما كانت هذه المعارضة على يسار النظام بالقضايا الوطنية ـــــ القومية في محطات الدخول السوري العسكري إلى لبنان (الذي كان بداية التوافق الأميركي ـــــ السوري) عام1976، واجتياح صيف 1982 للبنان، وحرب الكويت عام 1991، ومحطة مؤتمر مدريد في خريف العام نفسه.
خلال الأشهر القليلة اللاحقة لاحتلال العراق في عام2003، بدأت تظهر مواقف جديدة من تجربة «العراق الجديد» الواقع تحت قبضة الأميركان، بدأ يقدمها بعض المعارضين السوريين في الجرائد العربية، إلى أن وصلت الأمور لذروتها مع طرح الرمز الأبرز للمعارضة السورية لنظريته في (الصفر الاستعماري)، عندما أعلن في تصريح صحفي أنه «في حديث إذاعي أجري معي مؤخراً سألوني ألا ترى أن هناك شيئاً مفيداً جرى في العراق، فقلت لهم: نعم أراه، أرى أنهم أزاحوا نظاماً كريهاً ونقل الأميركان المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر»، (مقابلة مع الأستاذ رياض الترك: موقع «الرأي» الإلكتروني، 29 أيلول 2003، وهي نص حرفي لما نشر في «النهار» في اليوم السابق).
كان هذا مترافقاً عند الأستاذ الترك، وخاصة بعد زيارته للقارتين الأوروبية والأميركية في شهري تشرين الأول والثاني من عام2003، مع تحول إيديولوجي انتقل من خلاله (من تصريحه لجريدة «الحياة» في 17كانون الثاني2000، رداً على سؤال «إذن رياض الترك لا يزال يعتبر نفسه شيوعياً ماركسياً؟»: «نعم ما زلت، ولن أعمل تحت راية أخرى إلا في إطار التحالفات») إلى موقع إيديولوجي جديد أيَّد من خلاله تغيير اسم «الحزب الشيوعي السوري ـــــ المكتب السياسي» والانتقال إلى الموقع الليبرالي. وقد صرّح بالشهر الأخير من ذلك العام في تسويغ ذلك، أثناء جلسة حزبية خاصة، بأن «هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة، وعلينا أن نلاقيها باتجاه وبرنامج ملائمين»، وهو ما أدّى، بانضمامه إلى هذا الاتجاه الذي كانت بذوره واضحة في قيادة الحزب منذ أواخر التسعينيات، إلى كسر التوازنات لمصلحة من كان يريد مغادرة مواقع الماركسية.
وبعد ما حدث في صيف عام 1976، عندما تبلورت المعارضة السورية في قوام واضح بجناحيها القومي («حزب الاتحاد الاشتراكي العربي» بقيادة الدكتور جمال الأتاسي) والماركسي مع انتقال «الحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي» من المشاركة في «الجبهة الوطنية التقدمية» ومجلس الشعب إلى المعارضة، وهو ما تزامن مع تشكل «رابطة العمل الشيوعي» في آب من ذلك العام، ثم انتقال جماعة الإخوان المسلمين إلى المعارضة أيضاً بعد مهادنة استمرت سبع سنوات بعد حركة 16تشرين الثاني1970ـــــ فإن انتقال قيادة «الحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي» من الماركسية إلى الليبرالية، بين عامي2003 و2005، قد ساعد على تبلور وتفتح خط ليبرالي أصبح مسيطراً على «نخب» واسعة من المعارضة السورية منذ تلك الأثناء، ليتبلور ذلك أيضاً في لجان إحياء المجتمع المدني، وفي حزب العمال الثوري العربي (ما هو الجسر الواصل بين ياسين الحافظ وفلسفة الليبرالية الجديدة عند ليو شتراوس؟)، وفي معظم الأحزاب الكردية السورية التي انتقلت لمعارضة النظام في مرحلة (ما بعد 9 نيسان 2003) بعد مهادنة استمرت ثلاثة عقود، وعند الكثير من الشخصيات المنضمة حديثاً (أو في ربع الساعة الأخير) للمعارضة، وخاصة في لحظة ذروة الأزمة الأميركية مع السلطة السورية في عام 2005 لما ظنّ الكثيرون من هؤلاء أن ما حصل في بغداد وبيروت سيحصل في دمشق ولو عبر سيناريو آخر، والعديد من هؤلاء كانوا إما في موقع (اللامكان) أو في مواقع قريبة من السلطة، وخاصة في الحزبين الشيوعيين الموجودين في «الجبهة»، أو في مواقع قومية عند تنظيم أكرم الحوراني القديم.
أتى «إعلان دمشق» في 16 تشرين الأول 2005 حصيلة لكل هذا التراكم الإيديولوجي ـــــ السياسي، في لحظة ذروة «أزمة ميليس»، وقد أعطى العديد من قادة هذا الإعلان مهلاً ومواعيد زمنية لإزاحة السلطة، في أحاديثهم الخاصة المغلقة، لا تتجاوز نهاية ذلك العام: هنا، قدّم «إعلان دمشق» رؤى جديدة تضمنت انزياحات عن الخط القومي ـــــ الوطني ـــــ الديموقراطي، الذي كان مسيطراً على المعارضة السورية بجناحيها الماركسي والقومي بالعقود الثلاثة السابقة، إلى خط (سوريا أولاً) عبر تقليص انتماء سوريا العربي إلى مجرد عضوية في «المنظومة العربية»، وإلى التخلي عن خط «ديموقراطية المواطن» لمصلحة خط «ديموقراطية المكوِّنات»، الذي بُني عليه ما يسمى «الديموقراطية التوافقية في العراق وأفغانستان» والمتضمن في «مشروع الشرق الأوسط الكبير» (13شباط 2004) المقدم من الإدارة الأميركية، مع سكوت في نص الإعلان عن مواضيع مثل العراق وفلسطين وأميركا التي أصبحت قواتها بمحاذاة مدينة البوكمال عند الحدود العراقية ـــــ السورية.
منذ ذلك الحين أصبحت هذه التوجهات الجديدة، تجاه العروبة والديموقراطية والموضوع الأميركي والعراق، إضافة للانزياحات نحو مدارات قريبة من أبو مازن و14 آذار عند المسيطرين على»إعلان دمشق»، مسيطرة على أقسام كبيرة من جسم المعارضة السورية. بالمقابل، برزت المعارضة لهذا الخط ضمن صفوف المعارضين السوريين بعدما ظهرت أولاً من داخل صفوف «المكتب السياسي» بين عامي2003 و2005، من حزبي «الاتحاد الاشتراكي العربي» وحزب العمل الشيوعي، اللذين، رغم انضمامهما لـ«إعلان دمشق»، إلا أنهما كانا منذ البداية في الضفة الأخرى، وكادا أن ينجحا في خلخلة البنية المفهومية ـــــ السياسية للإعلان عبر وثيقة «التوضيحات» ـــــ 31 كانون الثاني 2006ـــــ الصادرة عن «اللجنة المؤقتة لإعلان دمشق»، التي سارع حزب الأستاذ رياض الترك، أي «حزب الشعب الديموقراطي»، إلى التبرؤ منها وإلى منع تحولها إلى وثيقة تمثل سياسة «إعلان دمشق».
تُرجم ذلك، على الصعيد العملي، إلى خندقين داخل «إعلان دمشق» حيال الموقف من حرب تموز، وقد بان من يومها أن الاختلاف المفهومي حيال مواضيع العروبة، و«ديموقراطية المكوِّنات» أو «ديموقراطية المواطن»، سيترجم إلى مواقف مختلفة على صعيد السياسة العملية حيال مواضيع ليست تفصيلية بل أساسية، مثل المشروع الأميركي والعراق ولبنان والتسوية.
أيضاً ظهر هذا أخيراً، بشكل جلي، لمّا وقّعت مجموعة كبيرة من الشخصيات السورية المعارضة بياناً يعارض قرار مجلس الشيوخ الأميركي (26أيلول2007) حول تقسيم العراق، حيث وقع عليه قياديون من «الاتحاد الاشتراكي» ومن حزب العمل الشيوعي، فيما لم يوقعها أحد من «حزب الشعب» أو من الأحزاب الكردية أو من المنضوين الآخرين في «إعلان دمشق»، فيما كان بارزاً توقيع القيادي الشيوعي الدكتور أحمد فايز الفواز، والدكتورة مية الرحبي والدكتور يوسف سلمان اللذين قادوا المعارضة للخط الأميركي في لجان إحياء المجتمع المدني عام 2004.
ثم بان هذا، بشكل فاقع، في الاجتماع المنعقد في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني للأمانة العامة لـ«إعلان دمشق»، لما نوقشت وثيقة «مشروع البيان السياسي» لما سيسمّى «المجلس الوطني لإعلان دمشق»، حيث طالب حزب العمل الشيوعي و«الاتحاد الاشتراكي» بإضافة فقرة تأخذ موقفاً مضاداً من المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني، ليجابه ذلك بالرفض من جميع الآخرين الذين يمثلون أكثرية كاسحة في تلك الهيئة القيادية للإعلان، الذين وصلت بهم الأمور حتى إلى حدود رفض صيغة مساومة تتحدث عن «مجابهة المشروع الصهيوني المدعوم من الإدارة الأميركية».
يؤدي ذلك كله إلى جعل «إعلان دمشق» جامعاً لما لا يمكن جمعه، حيث إن الخلافات على المشروع الأميركي في المنطقة والعراق ولبنان والتسوية والعروبة وديموقراطية المكوِّنات هي خلافات، إذا أردنا استخدام المصطلحات الفقهية الاسلامية، على الأصول لا على الفروع، فيما تدل تجربة السنتين الماضيتين من عمر «إعلان دمشق» على أن له هوية إيديولوجية ـــــ سياسية محددة، وانحيازات وتخندقات، تجعل من الصعب الانضواء تحت خيمته.
في حالة كهذه، هل انقسام المعارضة السورية وانشقاقها إلى معارضتين يكون عيباً أو حراماً أو خطأً، من الناحيتين المبدئية أو السياسية؟ بمعنى آخر: هناك ملامح واضحة لتكوُّن مرحلة انتقالية، ستدفع حتماً باتجاه مآلات انشقاقية في المعارضة السورية لتكوين جسم آخر، غير «إعلان دمشق»، وخط آخر يكون مبنياً على أسس وطنية ـــــ ديموقراطية، فهل سيلتقط أصحاب هذا الخط الأمر، ويمنعون تكرار السيناريو العراقي، عندما ضاعت بلاد الرافدين بين ثنائية صدام حسين ـــــ أحمد الجلبي؟
* كاتب سوري