سعد الله مزرعاني *
كان السؤال المتداوَل بين اللبنانيّين، والمهتمّين عرباً وأجانب، حتى أواسط شهر تشرين الثاني الماضي: متى تدبّ الفوضى ويقع «الشرّ المستطير» الذي حذّر منه رئيس المجلس النيابي نبيه برّي؟ إلّا أنه بعد ذلك التاريخ الذي بلغ التصعيد فيه ذروته عبر كلام وزيرة الخارجية الأميركية التي أصرّت بلهجة آمرة و«صارمة» على هامش الاجتماع الدولي بشأن العراق (في الثاني والثالث من تشرين الثاني الماضي في إسطنبول) على انتخاب رئيس فئوي لبناني، سارت الأحداث باتجاه مغاير.
والواقع أنّ تسارع عدد من الأحداث والتحوّلات، قد أدّى إلى طرح سؤال معاكس: لماذا لم تقع الفوضى في لبنان؟ فقد مرّت مهلة الاستحقاق الرئاسي من دون تصعيد. وباشر الأستاذ وليد جنبلاط، مرحلة تحوّل جديد في الموقف والنبرة والعلاقات. وسارع الأفرقاء المقرّرون في فريق 14 آذار إلى إعلان ترشيح العماد ميشال سليمان، قائد الجيش، رئيساً للجمهورية، وهم كانوا قبل أسابيع معدودة، قد رفضوا رفضاً جازماً مبدأ ترشيحه بسبب تعارض ذلك مع النصوص الدستورية.
إنّ الأزمة اللبنانية لم تنتهِ. وهذا الاستنتاج ليس ناجماً عن تعثّر الاتفاق حتى الآن، على انتخاب قائد الجيش في الرئاسة الأولى، فحتى لو انتُخب الرئيس العتيد، بإجماع أو بشبه إجماع، فإنّ الأزمة اللبنانية، أعمق من أن تختزلها مشكلة انتخاب: إنّها أزمة عميقة في أسبابها الداخلية، وفي تفاعلاتها مع أزمات المنطقة، وخصوصاً، منذ الغزو الأميركي للعراق واحتلاله في نيسان 2003.
ما الذي أدّى إلى تلك التبدّلات والتحوّلات التي أدّت بدورها إلى وضع الأزمة اللبنانية تحت السيطرة النسبية، فلم تدب الفوضى، أو تندلع حرب أهلية مخيفة بكل المقاييس؟
عاملان أسهما في حصول التحوّل الراهن. الأول، محلّي. وهو ذو شقّين، سياسي وأمني. أمّا السياسي ففي ضعف التغطية السياسية التي يمكن أن يحظى بها قرار انتخاب رئيس بأكثرية النصف زئداً واحداً. فإلى المعارضة، كان هناك رفض البطريرك الماروني لهذا الخيار. وكذلك تحفّظات واعتراضات من داخل فريق الأكثرية الموالية، عنينا بذلك المواقف التي أعلنها الوزير محمد الصفدي، إلى مواقف نوّاب وشخصيّات وفعاليّات، بما في ذلك من «تيار المستقبل» نفسه (مثلاً موقف النائب والوزير السابق بهيج طبارة). إنّ خيار «التوافق» على شخص الرئيس الذي انطلق كمطلب مشاركة للمعارضة في فريق 8 آذار، قد حظي لأسباب عديدة، بدعم عربي كبير، وبدعم أوروبي شامل كرّسته زيارات ومواقف ممثلي الترويكا الأوروبية إلى لبنان (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا التي تتحمّل المسؤولية القيادية والعددية الأساسية في قوّات اليونيفيل العاملة في الجنوب بموجب القرار 1701).
ويجب تمييز دور فرنسا، وخصوصاً في هذا الصدد. فباريس ذات التأثير التقليدي في الوضع اللبناني، قد انتقلت قيادتها بعد انتهاء ولاية الرئيس جاك شيراك، من فريق نشيط في دعم «ثورة الأرز»، إلى وسيط ضاغط من أجل الوفاق على أساس مبادرة رئيس المجلس النيابي، وإلى التفتيش عن «نجاح» جديد وعلاقات جديدة في لبنان والشرق الأوسط عموماً.
أمّا العامل المحلّي الآخر، فهو في اختلال ميزان القوى الأمني لمصلحة فريق الثامن من آذار. لقد أدى هذا الاختلال دوراً رادعاً ولا شكّ، في منع فريق 14 آذار من المضيّ في التصعيد. وكان من السهل الاستنتاج أنّ الفوضى والاحتراب ستصيب نتائجها السلبيّة فريق الموالاة أكثر من فريق المعارضة، وأنّ سوريا، وفق حسابات الربح والخسارة، ستكون الرابحة الأولى، بينما ستكون واشنطن، لبنانيّاً، في الموقع النقيض.
بيد أنّ هذه المعطيات المحلية والمعزَّزة عربيّاً وأوروبيّاً، لم تكن كافية لإحداث التحوّل الذي أشرنا اليه، لو لم تواكبها، أو تؤطّرها، تحوّلات أكبر وأخطر، في الوضع الإقليمي على نطاق كامل مواقع توتّره وأزماته.
تحتاج هذه التحوّلات إلى متابعة أكثر إلحاحاًَ وعمقاً، إلا أنّ ما برز منها يكفي لإدراك تأثيرها الكبير، أو حتى شبه الحاسم على الوضع اللبناني. ويمكن الإيجاز بالقول إنّ الإدارة الأميركية، قد استنفدت فرص وإمكانات التصعيد العسكري المباشر وغير المباشر في الشرق الأوسط. فلقد بلغ التعزيز العسكري الأميركي ذروته (في العراق في أواسط العام الحالي) حين تمّ رفد القوات الأميركية، وفق «استراتيجية بوش الجديدة»، المعلنة في شباط الماضي، بأكثر من عشرين ألف جندي أميركي. لم يكن هذا التعزيز بهدف الحسم، بل كان، في أحسن الحالات، لوقف التدهور. أمّا احتمال توسيع المغامرة العسكرية الأميركية نحو إيران وسوريا، فكان أمراً مستحيلاً من الناحيتين السياسية الأميركية الداخلية، ومن الناحية العسكرية، نظراً لحجم التورّط المطلوب، ولحجم المخاطر المتوقّعة.
إلى ذلك، كان الوضع الأفغاني، يتطوّر، هو الآخر، في غير مصلحة واشنطن.
أمّا إسرائيل، فقد سقطت ورقتها حين عجزت قواتها عن الانتصار في لبنان، وعجزت بالتالي، عن تشكيل رافعة «يبزغ» منها «فجر» المشروع الأميركي مجدّداً، كما أملت السيدة كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركيّة.
بناءً على هذه العثرات والحدود والإمكانات، اتجهت الإدارة الأميركية نحو سياسة جديدة ذات طابع أكثر تواضعاً وأكثر واقعية، على مستوى كامل الشرق الأوسط. وليس صعباً الآن إدراك أن هذه السياسة، تقوم على الاحتواء السياسي بدل التهديد بالقوّة أو ممارستها. ينطبق ذلك على العراق وفلسطين ولبنان...
في مجرى هذه الاستراتيجية المستجدّة، تشجّع الإدارة الأميركية «عملية سياسية» من نوع جديد في العراق. وهي بموجب ذلك، باتت مستعدّة أكثر من السابق، للبحث في جدول زمني للانسحاب من هناك، مع الاحتفاظ بوجود عسكري قوي يحول دون استمرار التورّط في الحرب، ويؤمّن، بالمقابل، وجوداً رئيسياً أميركياً في العراق خصوصاً، وفي المنطقة عموماً.
كان لا بدّ، بالنسبة إلى واشنطن، من أن يقترن بذلك، باحتواء الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي عبر مؤتمر أنابوليس، وبتبريد الوضع اللبناني، عبر التخلّي عن انتخاب رئيس حليف وتابع لواشنطن في لبنان.
وكان لا بدّ من أجل ذلك، أيضاً، من التخلّي عن مقاطعة إيران وسوريا، والسعي لإقامة علاقات تعاون معهما خصوصاً، في ما يتعلّق بالعراق ولبنان...
لقد وصلت إشارات ونتائج هذه التحوّلات الأميركية إلى أوروبا، وعرب «الاعتدال»، ورئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط الذي سارع إلى التحوّل بدوره متخلّياً عن لغة الحرب والتهديد والعداء والأوهام. ونقصد بالأوهام خصوصاً، ذلك الرهان الذي أقامه على قدرة واشنطن غير المحدودة على أن تقول لأي شيء أو نظام، كن فيكون أو... لا يكون!
يمكن وصف هذه التحوّلات بعنوان آخر: وقف الاندفاعة الهجومية الأميركية في المنطقة. إلا أنّ الصراع مستمر، لأن الأهداف باقية، ولأنّ أشكالاً من العدوان ستبقى قائمة. إن بوش يمثّل في السياسة الأميركية، في وقت واحد، مصالح عامة هي مصالح المؤسّسة الأميركية، ومصالح خاصة متداخلة، هي مصالح حزبه.
يريد الرجل في أواسط عام 2008 أن يهدي الحزب الجمهوري انتصاراً ما، مع دخول الانتخابات الرئاسية الأميركية، مرحلة الحسم، ولا تريد المؤسّسة الأميركية، أن تهدر عناصر القوّة والمصلحة العامة الأميركية (المقصود الاحتكار الكبرى) انتقاماً من رعونة رئيس.
الحرب مستمرة بأشكال جديدة والبقاء والنصر لمن يستطيع حسن استخلاص الدروس والعبر والبرامج والعلاقات...
* كاتب وسياسي لبناني