رائد جرار *
بعد أكثر من عقد من مساندة وشرعنة الحروب والحصار الاقتصادي والتفتيش عن الأسلحة في العراق، بدأت الأمم المتحدة دورها الجديد بإضفاء غطاء شرعي دولي على الاحتلال بعد نحو سبعة أشهر من سقوط بغداد. ففي السادس عشر من تشرين الأول من عام 2003 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم 1511 لتخويل قوات الاحتلال البقاء عاماً آخر في العراق. وتم تجديد هذا التخويل ثلاث مرات طبقاً للقرارات الصادرة في الثامن من حزيران 2004، والحادي عشر من تشرين الثاني 2005، والثامن والعشرين من تشرين الثاني 2006، المرقمة 1546، و 1637، و1723 على التوالي. ومن المتوقع أن يصدر مجلس الأمن قراراً جديداً بهذا الخصوص في غضون الأسابيع القليلة القادمة. اعتمد القراران الأولان لتخويل مهمة قوات الاحتلال على أساس أن الحاجة لوجود القوات الأجنبية في العراق ستنتهي حال انتهاء «العملية السياسية»، أي كتابة دستور جديد والقيام بانتخابات تشريعية. إلا أن المجلس مرّر القرار 1637بشكل غير متوقع لتجديد مهمة «القوات المتعددة الجنسيات» عاماً آخر قبيل الانتهاء من التحضيرات النهائية للانتخابات العراقية. لكن المفاجأة الحقيقية لمراقبي الشأن العراقي كانت قرار التمديد الأخير في العام الماضي الذي اتخذ، حسب التصريحات الرسمية لمجلس الأمن والحكومة الأميركية، بناءً على طلب «الحكومة العراقية».
الصراع بين السلطات التشريعية والتنفيذية في الحكومة
حقيقة الأمر أن أطرافاً مختلفة في الحكومة العراقية كانت تخوض صراعاً دستورياً وقانونياً، وكان هناك حوار رسمي ما بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بشأن تجديد تخويل الأمم المتحدة لقوات الاحتلال. سياسياً، رفضت السلطة التشريعية (مجلس النواب) فكرة التمديد غير المشروط للتخويل، بينما دفعت السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء ومجلس الرئاسة) فكرة التجديد غير المشروط لإبقاء الاحتلال سنة أخرى. دستورياً، تعطي المادة 58/رابعاً الحق الحصري لمجلس النواب في المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بينما تعطي بعض المواد الأخرى تخويلًا للسلطة التنفيذية بمناقشة المعاهدات والاتفاقيات الدولية بشرط الرجوع إلى السلطة التشريعية لغرض المصادقة عليها بأغلبية ثلثي مجلس النواب. لكن في خضم هذا الصراع السياسي والقانوني، فوجئ مجلس النواب برسالة مؤرخة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 موجهة إلى رئيس مجلس الأمن من رئيس مجلس وزراء العراق يطالب فيها بـ«تمديد تفويض القوات المتعددة الجنسيات [...] 12 شهراً أخرى ابتداء من 31 كانون الأول 2006».
الذريعة التي استخدمها مجلس الوزراء لتبرير ذلك الخرق الدستوري كانت الادعاء بأن تخويل الأمم المتحدة لقوات الاحتلال لا يقع ضمن خانة المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وبأن للسلطة التنفيذية الحق بإرسال طلب التجديد إلى مجلس الأمن من غير الرجوع إلى مجلس النواب. لم تلق اعتراضات مجلس النواب أذناً صاغية من جانب السلطة التنفيذية المدعومة من الإدارة الأمبركية، ولا من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
لذلك قام مجلس النواب العراقي بالعمل على خطوتين مبكرتين هذا العام لتحاشي الوقوع في أخطاء العام الماضي. الخطوة الأولى كانت توجيه رسالة في الثامن والعشرين من نيسان 2007 إلى مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة لتوضيح الخروق الدستورية التي ارتكبت في عدم الرجوع إلى مجلس النواب قبل تجديد التخويل. وانتهت الرسالة بمطالبة من أعضاء مجلس النواب «بوضع جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال (المتعددة الجنسيات) من العراق الحبيب». وقّعت أغلبية النواب على الرسالة (144 نائباً من أصل 275)، وتم تسليم الرسالة إلى أشرف قاضي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق في ذلك الوقت.
الخطوة الثانية كانت إمرار قرار خلال الجلسة 32 لمجلس النواب المنعقدة في الخامس من حزيران 2007 لتثبيت أن تجديد تخويل الأمم المتحدة يقع ضمن خانة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وبالتالي ضمن أحكام المادة 58\رابعاً والقاضية بالعودة إلى مجلس النواب وضمان موافقة ثلثي الأعضاء قبل مخاطبة الأمم المتحدة للمطالبة بتجديد مهمة قوات الاحتلال. تم اعتماد القرار بأغلبية النواب ومن ثم إرساله إلى مجلس الرئاسة. تنص المادة 70/ثالثاً على أن قرارات مجلس النواب تعد «مصادقاً عليها بعد مضي خمسة عشر يوماً من تاريخ تسلمها»، إلا إذا اعترض عليها الرئيس وأرجعها لمجلس النواب. لم تقم الهيئة الرئاسية بالاعتراض أو برد القرار حتى اليوم، مما يجعل من القرار قانوناً ساري المفعول طبقاً للأحكام العراقية.
إن هذا الصراع العراقي ـــــ العراقي هو صراع سياسي بحت لا جذور أو دوافع طائفية أو دينية. فهناك قوى سنية وشيعية وعلمانية وكردية ومسيحية تسيطر على السلطة التشريعية المنتخبة، وقوى أخرى سنية وشيعية وعلمانية وكردية ومسيحية تسيطر على السلطة التنفيذية غير المنتخبة. وهذا الصراع الحاصل الآن بخصوص الموقف من تخويل الأمم المتحدة ليس الصراع الأول بين هذه السلطات. فالسلطة التشريعية معارضة لتقسيم العراق إلى أقاليم ذات أساس عرقي وطائفي، بينما تدعم الأحزاب المشاركة في السلطة التنفيذية قانون الأقاليم وقانون بايدن ـــــ براونباك. وكذلك تدعم السلطة التنفيذية القانون الذي يخصخص النفط والغاز في العراق إلى فترة تصل إلى 37 سنة ويسمح للأقاليم والمحافظات ببيع مواردها الطبيعية من دون العودة للحكومة المركزية فاتحاً الأبواب لتقسيم العراق اقتصادياً، بينما تعارضه السلطة التشريعية بشدة وتراه تهديداً لسيادة العراق ولوحدة أراضيه. وأخيراً وليس آخراً، تعارض السلطة التنفيذية أي مخطط يتضمن انسحاب قوات الاحتلال الأجنبي أو يعرقل تدريب القوات المسلحة العراقية على أيدي القوات الأجنبية، بينما ترى السلطة التشريعية الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال مطلباً شعبياً مشروعاً وحاجة ملحّة لبدء مسيرة الإعمار والمصالحة وبناء الدولة والقوات المسلحة غير الطائفية.
من الجدير بالذكر أن استطلاعات الرأي التي أجريت في العراق خلال السنوات الماضية تظهر أن السلطة التشريعية هي الأقرب لمطالب أغلبية الشعب العراقي. في معدل هذه الاستطلاعات، ثلاثة أرباع الشعب العراقي من مختلف المحافظات والطوائف يطالبون بالعيش في بلد واحد عاصمته بغداد، وبعدم خصخصة الموارد الطبيعية، ويطالبون برحيل قوات الاحتلال، ويعتقدون بأن الظروف في تدهور بسبب وجود القوات الأجنبية، وأن الأحوال ستتحسن حال انسحاب تلك القوات من العراق.
الدور الأممي في إنهاء العنف في العراق
لقد ساعدت شخصياً في تنظيم اجتماع عبر الهاتف قبل أقل من ثلاثة أسابيع ما بين ممثلين أغلبية بعثات مجلس الأمن الدولي الخمسة عشر وبرلمانيين عراقيين سنّة وشيعة وعلمانيين وغيرهم ممن يسيطرون على الأغلبية البرلمانية ولا تمثيل لهم في مجلس الوزراء أو ديوان الرئاسة. الهدف من الاجتماع ـــــ غير العلني ـــــ هو تفهم المسألة السياسية والدستورية المتعلقة بتجديد التخويل، وسماع صوت أعضاء البرلمان المغيب.
مفاجأة الاجتماع الأولى حصلت عندما اكتشف الطرفان أن السيد أشرف قاضي، وبرغم تأكيده للجانب العراقي أنه قد سلم بالفعل رسالتهم للأمين العام للأمم المتحدة ولأعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، لم يقم بإيصال الرسالة. لم يتمكن ممثلو بعثات مجلس الأمن الدولي من إخفاء صدمتهم، وسألني أحدهم مقاطعاً بأن أعيد ترجمة القضية ليتأكد أن ما سمعه صحيح. ضجّت القاعة بالهمسات والوجوه الذاهلة. قال أحد الحاضرين «هذا مخالف لكل بروتوكولات مجلس الأمن والأمم المتحدة»، وأضاف آخر «أنا متأكد أن حكومتي ستطالب السيد أشرف قاضي ببعض التوضيحات».
المفاجأة الثانية كانت عندما اعترض أعضاء مجلس النواب على التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة، المقدم في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر عملًا بالفقرة 6 من القرار 1770، والذي ذكر خطأ أن مجلس النواب قد اعتمد «في ٥ حزيران/يونيو قراراً غير ملزم بأن يطلب مجلس الوزراء موافقة البرلمان على أي تمديد مقبل للولاية المنظمة للقوة المتعددة الجنسيات في العراق وإدراج جدول زمني لرحيل القوات عن العراق»، حيث عرض أعضاء مجلس النواب العراقي إجراءات إصدار القرارات والقوانين في العراق وأكدوا على أعضاء مجلس الأمن أن القرار إلزامي وقانوني، وأن الفقرات الدستورية واضحة وجلية في هذا الخصوص.
إنه لمن الغريب أن تتغنى حكومات الاحتلال والأمم المتحدة بالديموقراطية الجديدة في العراق وبالانتخابات «غير المسبوقة» وبالدستور الذي تم فرضه على العراقيين، وفي الوقت نفسه تراهم يتجاهلون الدستور ويتجاوزن المجلس المنتخب الوحيد في العراق، ويدعمون السلطة التنفيذية غير المنتخبة وغير الممثلة لمطالب ورغبات الشعب العراقي. إن هيمنة بريطانيا والولايات المتحدة على عملية صنع القرار في الأمم المتحدة قد أدت إلى دفع الأخيرة لتبني سياساتهما من غير أي درس أو تمحيص في هذه السياسات.
فالسياسة الأميركية والبريطانية في العراق مبنية على الدعم الكامل للسلطة التنفيذية، سواء كان هذا الدعم عسكرياً، مباشراً أو من خلال تدريب القوات النظامية والميليشيات التابعة للسلطة التنفيذية، أو سياسياً، من خلال إسكات صوت الأغلبية وتكبير صوت الأقلية الحاكمة محلياً ودولياً، أو اقتصادياً. وبرغم المحاولات الأميركية ـــــ البريطانية لتصوير الصراع العراقي ـــــ العراقي صراعاً أزلياً مبنياً على أحقاد مذهبية وعرقية، وأنهم في العراق ليحموا الأكراد من العرب تارة، والشيعة من السنة تارة، والسنة من الشيعة تارة أخرى، تشير الدلائل إلى أن الصراع العراقي المتنامي هو صراع سياسي، وأن هناك من أهل السنة من يقاتل ضد آخرين من أهل السنة، ومن شيعة آل البيت من يقاتل ضد آخرين من الشيعة، ومن العلمانيين من يقاتل ضد علمانيين آخرين، وهلمّ جرّاًَ. فأكذوبة «المصالحة الوطنية الدينية» أو «الطائفية» أو «العرقية» لن تفضي بالعراق والعراقيين إلى غير ما أفضت به السنين الأخيرة.
إلا أن هنالك حاجة ملحة لمشروع مصالحة وطنية سياسية ينهي العنف والاقتتال الداخلي العراقي، لكن مصالحة كهذه غدت مستحيلة بسبب الدور الأممي والأميركي والبريطاني الداعم للأقلية الحاكمة ضد الأغلبية المقهورة. المصالحة بين التيارات الانفصالية في السلطة التنفيذية والقوى الوطنية في السلطة التشريعية ممكنة، والتوصل إلى حلول وسط للقضايا الخلافية ممكن. على سبيل المثال لا الحصر، قد يتفق كلا الجانبين (الانفصاليون والوطنيون، التشريعية والتنفيذية) على شكل جديد من أشكال الفدرالية يضمن الاستقلالية الإدارية ويحافظ على وحدة العراق السياسية والاقتصادية من دون تقطيع أوصال نسيجه الاجتماعي. لكن التوصل إلى هذا الاتفاق مستحيل بسبب التدخل الأجنبي الذي لا يعطي للتيارات المدعومة من منه أي سبب للمساومة والتوصل إلى حلول.
قضية إنهاء الاحتلال والتدخل الأجنبي هي أحد أهم القضايا الخلافية التي لا تزال تعمّق الخلاف ما بين العراقيين. هنالك إمكان كبير بأن تحمل الأسابيع القليلة القادمة في طياتها فرصة ذهبية للأمم المتحدة لتؤدي دورها في إنهاء الاحتلال والعنف في العراق من خلال احترام رغبة أغلبية العراقيين وقرارات السلطة التشريعية في الحكومة العراقية. أما إذا انحاز مجلس الأمن مرة أخرى وتبنّى سياسات الاحتلال في دعم السلطة التنفيذية العراقية، فسيكون هذا مثالًا صارخاً جديداً على الدور السلبي للأمم المتحدة في العراق والمنطقة، الممهد لإبقاء قواعد عسكرية دائمة لللاحتلال الأميركي في العراق.
* كاتب عربي مقيم في الولايات المتحدة الأميركية