strong> سليم العازار *
تنص المادة 73 من الدستور على أن مجلس النواب، إذا لم يُدعَ لانتخاب خلفٍ لرئيس الجمهورية في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولايته، فعلى المجلس أن ينعقد وأن يجتمع حكماً لهذه الغاية.
وتؤكد المادة 74 من الدستور أنه إذا خلَت سُدَّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو أي سبب آخر، فلأجل انتخاب الخلف يجتمع مجلس النواب فوراً بحكم القانون، واذا اتُّفق حصول خلاء الرئاسة في وقت وجود مجلس النواب منحلاً، تُدعَى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الاعمال الانتخابية.
وتُمعن المادة 75 من الدستور في التأكيد على أن مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يُعتبر هيئة انتخابية، لا هيئة اشتراعية، ويترتَّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أي عمل آخر.
فيتحصَّل من هذه النصوص الصريحة والواضحة، والإلزامية بقوة الدستور، بل أكثر من ذلك، الإلزامية حتماً بقوة الطبيعة والمنطق والعقل، التي لا يمكن مخالفتها، ما لم يقع المرء في السفسطة التي يمجُّها بداهةً الحسّ العام السليم، أن تعديل الدستور، وسُدَّة الرئاسة فارغة، أمر مستحيل.
ذلك، لأنه لا يمكن الاشتراع لدولة فقدت رأسها، فأصبحت ميتةً أو شبه ميتةٍ وبات من المُلحّ إيجاد رأس لها قبل كل شيء، حتى قبل انتخاب رئيس لمجلس النواب، إذا كان هذا المنصب شاغراً، على ما يستفاد من أحكام المادة 74 السابقة الذكر.
فحتى اتفاق الطائف الذي تمَّ خارج لبنان والذي برَّره الخلاص من الحرب الاهلية المستعرة في داخله، فإنه لم يدخل في صلب الدستور، إلاَّ في 21/9/1990، أي بعدما صار للبنان رئيس للجمهورية.
عدا عن الآلية التي أشـرك الدستـور إلزاماً رئيس الدولة شخصياً بتحريكها اذا ما أُريدَ حقاً تعديل الدستور، والمنصوص عليها في المواد 76 و77 و79، والمتّصلة دائماً بشخص الرئيس بالذات، المؤتمن عليها والذي أقسم وحده اليمين على المحافظة عليها، والتي تتوقّف بالتالي حتماً في حال غيابه، فإنها آلية معقدة ولا يمكن أن تنتقل الى الحكومة وكالةً، مهما تكن الظروف، خلافاً لما يظنُّه الدهاة أصحاب الألاعيب الذين يستندون خطأ الى أحكام المادة 62 من الدستور، المصوغة بشكل عام وغير دقيق، متوسعين كثيراً بتفسيرها، والتي لنا عودة إليها لتوضيحها لاحقاً في أدناه.
وبعد، فالأغرب ما في الأمر والأكثر استهجاناً أن يأتي بعض من يسمّون أنفسهم رجال قانون، مطعَّمين بالسياسة بشكلٍ أو بآخر، أو بالعكس، بعض رجال السياسة المطعَّمين بالقانون، فيتباهون بأنه ليس ما يستعصي عليهم وأَن بمقدورهم ـــــ انطلاقاً من القول بأن مجلس النواب سيّد نفسه ـــــ ان يجدوا بسهولة «مخرجاً» ـــــ (هكذا) ـــــ أو عدة «مخارج» للمأزق الدستوري الذي يحول دون حق مجلس النواب في الاشتراع في غياب رئيس الدولة أو القيام بأي عمل آخر ما لم يجر قبلاً انتخاب رئيس للجمهورية وفقاً للأصول الدستورية، متناسين أن المقولة بأن مجلس النواب سيّد نفسه قد تلاشت اليوم في كل البلدان العريقة في الديموقراطية، بدليل أنه بات الآن من الممكن للمجلس الدستوري الذي أنشئ خصيصاً لمراقبة عدم دستورية القوانين أن يبطل تلك القوانين التي يشترعها مجلس النواب، حتى ولو صوَّت عليها جميع النواب، إذا ما طعن بها أمامه لاحقاً عشرة نواب مثلاً ضمن المهلة القانونية، وإن كانوا قبلاً من عداد الذين صوّتوا عليها موافقين، بل إن المجلس الدستوري بإمكانه في بعض البلدان أن يبطلها دون أن يطعن بها أحد أمامه.
فكيف هي الحال، إذا ما كان تعديل هذه القوانين منافياً أيضاً لقواعد الطبيعة والمنطق!
ولا يُرَدّ بأن المادة 32 من الدستور، إذ تنص على أن مجلس النواب المجتمع في عقد عادي، عليه أيضاً أن يصوّت قبل كل عمل آخر على الموازنة المطروحة عليه وأن السادة النواب دأبوا، مع ذلك، وفي الوقت نفسه، على التشريع أو القيام بأعمال أخرى وأنه يمكنهم بالتالي قياساً فعل الشيء نفسه، في حال فراغ سُدَّة الرئاسة، أن يجتمعوا حكماً بمعزل عن دعوة رئيس المجلس لهم وأن يعدلوا الدستور قبل انتخاب للجمهورية، لا يُرّد بذلك، لأن النواب، اذا ما أخطأوا في مكانٍ، لا يصبح لهم حق مكتسب ليخطئوا في مكانٍ آخر، فضلاً عن أن الشكل المصوغة به المادتان 74 و75 أشد صرامة وأشمل مدى مما هو في المادة 32 وأن انتخاب رئيسٍ للجمهورية في مثل الظرف الموصوف والمشار إليه، هو أمر ملحاح جداً لا يحتمل قطعاً أي تأجيل مهما كان قصيراً، ولا يتقدم عليه أي أمر آخر.
كما لا يُرَدّ بأن المادة 78 من الدستور، إذ تنص على أن مجلس النواب، إذا ما طُرح عليه مشروع يتعلق بتعديل الدستور، وجب عليه أيضاً أن يثابر على المناقشة حتى التصويت عليه قبل أي عمل آخر، على غرار ما تنص عليه المادتان 74 و75، وأن القارئ يحتار إزاء هذه الحالة متسائلاً، أيهما له الافضلية، أهو تعديل الدستور أم انتخاب رئيس للجمهورية في حال فراغ سُدّة الرئاسة، لا يُرَد بذلك، لأن المادة 78 لا تتعارض مع أحكام المادتين 74 و75 المتعلقتين، بشكل خاص جداً وصريح، بموضوع آخر مختلف، ألا وهو انتخاب رئيس للجمهورية فوراً، مهما كان العقد، بسبب فراغ سُدَّة الرئاسة.
وبالعودة الى كلمة «مخرج» التي لجأ إليها البعض واستحبُّوها وأكثروا من استعمالها، فإنها كلمة بشعة جداً، تستعمل عادة بمعناها الحسّي في اللغة الطبّية.
إلا أن رجال القانون والسياسة المشار إليهم يستعملونها الآن طبعاً بمعناها المجازي، ويقصدون بها الوسيلة للالتفاف والاحتيال على نص قانوني أو دستوري، إلزامي وصريح، أوصلهم الى الحائط المسدود وأوقعهم في مأزقٍ أو في قعر البئر الذي لا إمكان لهم للخروج منه.
و«المخرج» بمعناه المجازي المشار إليه أشد بشاعةً مما هو بمعناه الحسّي، اذ إن الاحتيال على القانون مرفوض قطعاً ودائماً، فكم بالأحرى إذا ما وقع على قانون دستوري، وإذا ما حصل، فإنه عرضة بالتأكيد للبطلان.
أما المادة 62 من الدستور التي تنص على أنه في حال خلوّ سُدَّة الرئاسة لأي علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء، فإنَّ من البديهي أنها تعني الوكالة بمفهومها القانوني العام، ذلك كي لا تتوقف عجلة الدولة ولا تُشَلّ كل أعمال ومصالح الشعب، كما يقوله معظم علماء القانون الدستوري.
فالمقصود إذاً، بصلاحيات رئيس الجمهورية التي تناط وكالةً بالحكومة في حال فراغ سُدَّة الرئاسة، هو صلاحيات الرئيس الادارية دون سواها بالمفهوم المعبَّر عنه والمحدَّد في المادة 778 من قانون الموجبات والعقود، الذي هو قانون عام، واجب تطبيقه في كل الأحوال والأوضاع، ما لم يكن هناك نص صريح وواضح يخالفه، علماً بأن المادة 778 المشار إليها، هي التي ترعى تفسير معنى الوكالة العامة وتحدّد مداها.
ولو أراد المشترع الدستوري أن ينقل أيضاً الى مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية الشخصية المتعلقة بطلب تعديل الدستور أو الموافقة على تعديله، كما يتوهَّم أصحاب «المخرج والمخارج» لكان من الواجب عندئذٍ على المشترع أن يذكر ذلك بوضوح توفيقاً لأحكام المادة 777 من قانون الموجبات والعقود العام. ولنفترض الآن على سبيل الجدل وحسب، أن أصحاب «المخارج» وجهابذة القانون تمكَّنوا من تعديل الدستور، وسُدَّة الرئاسة فارغة، أو في الحقيقة من الانقلاب على الدستور عن طريق الاحتيال أو التحايل على نصوصه، وهو أمر طبعاً، مرفوض قطعاً في القانون، ولا يراعي الاخلاق العامة ولا المبادئ الدستورية الأساسية ولا قواعد المنطق الأولية، على النحو المبيَّن تفصيلاً في أعلاه، فإنه يجدر بنا عندئذٍ أن نتساءل مع الاعلامي المرموق الأستاذ سعيد الغريّب عما هو ممكن للرئيس العتيد، أو لأي رئيس آخر عتيد، أن يفعل في ظل الأوضاع الراهنة، وبالتالي عما هي الفائدة العملية من هذا الانقلاب الدستوري.
وما دامت هذه هي الحال، وما دام تعديل الدستور في هذا الظرف أيضاً انقلاباً عليه لا يمكن تغطيته، فلماذا كل هذا التلاعب المضحك الذي يجهد النواب أنفسهم به، ولماذا كل هذا اللّف والدوران والاحتيال على الله وعبيده وحتى على الذات، فليقدم النواب صراحةً، إذا صح أنهم متفقون، على انتخاب الرئيس المتوافق عليه، في ظل الدستور الحالي دون تعديله، لأن ذلك لن يكون أكثر خرقاً للدستور مما هو في حال تعديله، وهم في الحالتين في مأمنٍ من كل رقيب وحسيب بعدما عطَّلوا المجلس الدستوري ولم يأبهوا بقراراته.
ومن جهة أخرى، فإن مجلس النواب منقسم على نفسه انقساماً حادّاً، لا أمل بالتحامه، فضلاً عن أنه جيءَ أصلاً بجماعة منه بطريقة غير شرعية، شابها الغش والخداع، إذ كذبت فئة منه على حلفائها ثم انقلبت عليهم، وخرقت أيضاً الأكثرية الدستور بشكل فادح وفاضح باشتراعها قانوناً لوقف عمل المجلس الدستوري، الذي هو مؤسسة دستورية لمراقبة القوانين غير الدستورية وبت النزاعات الانتخابية، النيابية والرئاسية، وإذ أبطل المجلس الدستوري ذلك القانون المخالف بداهةً للدستور، بموجب قراره الملزم للجميع بمن فيهم مجلس النواب، عاد هذا الأخير قصداً وعمداً، غير آبهٍ بالقرار الدستوري، فاشترع مجدَّداً قانوناً آخر غيّب بموجبه المجلس الدستوري، مرة أخرى، ففرغت له السهلة ثم راح يشترع ويتصرف على هواه.
أما الحكومة، فهي منبثقة من المجلس النيابي المشار إليه، وقد أصبحت بتراء وغير شرعية وغير دستورية وغير ميثاقية.
فإزاء هذه الصورة القاتمة التي ترتسم واضحة أمام عيون المواطنين، فإن قناعتهم راسخة بأن أي رئيس للجمهورية لن يغيّر شيئاً، وأنه سيدير الازمة كالرئيس الذي سبقه الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإن كانت هنالك صفقة ما قد جرت موقتاً بين أميركا وسوريا، بنتيجتها تم التوافق على شخص معيّن ليصبح رئيساً، رغم أنه كان مرفوضاً من قبل.
فهل هذا ما يريده الشعب، كل الشعب؟...
بالتأكيد كلاّ، لأنه يريد حلاً دائماً، لا موقَّتاً، بعد معاناة وآلام دامت عقوداً وعقوداً.
لذلك، أناشد سيادة العماد سليمان، بدلَ أن يقبل بتعديل دستوري لمصلحته، هو في الحقيقة بمثابة انقلاب دستوري ولا جدوى منه، أن يقوم بانقلاب عسكري مفيد، أصبح الآن مبرراً من أجل خلاص الوطن، لأن كل المؤسسات الدستورية منهارة أو مشلولة، فيعمل فوراً على إعادة تكوين المؤسسات الدستورية كلها، بدءاً بالمؤسسة الأمّ، أي مجلس النواب، عن طريق إجراء انتخابات نيابية نزيهة بموجب قانون انتخاب عادل، وليربح من يختاره الشعب، فهذه هي الديموقراطية الحقيقية والصحيحة.
وإذا كان سيادته الذي تحلَّى مشكوراً بالانضباطية العسكرية طوال حياته، لا يرغب في أن يقوم بمثل هذا الانقلاب، فليسمح عندئذٍ لغيره بأن يقوم بما لا يريد، هو، أن يقوم به.
* محامٍ، وعضو المجلس الدستوري سابقاً