ياسين تملالي *
لا ينظّم الحكّام العرب استفتاءات سوريالية تُخيّر فيها شعوبُهم بين تزكية حكمهم وتقصير مدّة ولايتهم، ويستغربون أشدّ الاستغراب جنون هوغو تشافيز الديموقراطي. هم الواقعيّون، ينظّمون استفتاءات واقعيةً تُعدَّل بها الدساتير بما يضمن لهم أن يموتوا على كراسيهم مكرَّمين لا على أسرَّة شيخوخة تَمتهن عالي مقامهم. هذه آخر موضاتهم، بعدما أدرك الهرم موضةَ «الحزب الواحد الطلائعي».
وقد دُشِّن عرس هذه الديموقراطية الجديدة في 2003 في تونس الخضراء، صاحبة الفضل الجمّ في صيانة المناهج البوليسية العالمية وتطويرها وأقلمتها، وما لبثت ضجّته بعد سنتين أن بلغت مصر أمّ الدنيا، حيث الفراعنةُ الغابرون أحياء خالدون خلود عرشهم تحت راية ديانة «توحيدية» جديدة.
وجاءت آخر أصداء العرس الجوّال من الجمهورية الجزائرية، بلد «الحكم للشعب وبالشعب» التي تضمن لمواطنيها حقّ المعارضة، ولمسؤوليها حقّ عدم الاكتراث للانتقادات إذا ما تناقضت مع «مصلحة الدولة». لم ترضَ الجزائر، وهي «البلد الرائد» الطليعي، بأن تبقى على هامش ما يجري في الوطن العربي من تغيّرات جوهرية في أنماط الحكم، فحالما أُسدل الستار على انتخابات 29 تشرين الثاني وعلى شعاراتها البهلوانية، «بدأت الأمور الجدية» كما يقول الفرنسيّون، وانطلقت الحملة الساعية إلى تغيير الدستور بما يمكّن عبد العزيز بوتفليقة من الترشّح لولاية ثالثة.
ولم يرق الجزائر أن تحرز تونس الريادةَ في مسابقة الديموقراطية العربية، فعزمت أمرها على أن يكون تعديل دستورها أعمق من مجرّد منح عبد العزيز بوتفليقة حقّ الترشّح لولاية أخرى، وذلك بتحويل بعض صلاحيات الوزير الأول إليه وحرمان البرلمان من حقّ انتقاد حكومة فخامته.
وكما في تونس أو مصر، علا عبد العزيز بوتفليقة بنفسه عن أن يكون المُطالب بتمديد ولايته وبتوسيع دائرة صلاحياته ـــــ وما أقلَّها ـــــ فكلّف بذلك أنصاره في جبهة التحرير الوطني، التي يتزعّمها «زعامة شرفية»، وفي اتحاد العمّال، الذي برهن مراراً على فعاليته في حماية مصالح الدولة العليا من خطر الطبقات السفلى الأنانية.
ويقول الساعون إلى إتحاف الرئيس بعهدة ثالثة ـــــ وما أصدق قولهم ـــــ إنّ الدستور «ليس قرآناً منزّلاً»، وإن أقلمته واجبة مع «التطوّرات التي تشهدها البلاد»، وأهمّ هذه التطورات، كما لا يخفى ذلك على أحد، رفض المجتمع القاطع لفوضى التغيير ورغبتُه في أن يطربه ذات الزعيم إلى الأبد بذات الخطب المنتقدة لجموده وعجزه عن «مواكبة العصر» و«رفع تحدّيات العولمة».
في 1996، عُدِّل الدستور وحُدِّد عدد العُهد الرئاسية باثنتين بغرض «تجسيد مبدأ التداول على السلطة». وكما يعرف الجميع، كان ذلك التعديل أيضاً استجابة «للطلب الشعبي». وقد أخطأ من ظنّ أنه ترجم خوف الجيش من أن يستعمل الرئيس طول مدّة حكمه للحدّ من تدخّل الجنرالات في الساحة السياسية، فالجزائر ليست «جمهورية موز» بترولية، بل دولة مدنية يأتمر فيها العسكريون بأوامر السياسيّين. ويخطئ اليوم من يزعم أن هدف عبد العزيز بوتفليقة من تغيير الدستور هو مواصلة مركَزَة القرار السياسي على مستوى الرئاسة، فلا هدف له من تكبد مشاق السلطة سوى إتمام مهمّته، وهي بسط السلم المدني وتعميم الرخاء. وهو لولا خشيتُه من أن يُشبَّه بغريمه التاريخي حسن الذكر، الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، لصاح مثله باكياً أمام أساطين النظام : «أعطني حريتي أطلق يديّا، إنني أعطيت ما استبقيت شيا».
ولا يبالي المطالبون بالتمديد بإمضاء الرئيس نصف وقته في إجراء كشوف طبية معقّدة، وهم في ذلك على صواب تام، «فكم من صحيح مات من غير علّة، وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر»، كما قال شاعر قديم متنبّئأً بما سيحظى به الزعماء العرب من عناية إلهية فائقة. وليس عبد العزيز بوتفليقة أقلّ حظّاً من صديقه زين العابدين بن علي الذي ضاعف السرطان قدراته على تسيير دفّة الحكم. كما أنّه لا يزال شاباً يافعاً إذا ما قورن عمرُه بعمر حسني مبارك الشبه أزلي، أو بما بلغه من الشيخوخة المجاهد الأكبر، الحبيب بورقيبة، قبل أن يُجبَر على استبدال أريكة الزعامة المنهكة بسرير مريح في أحد مستشفيات قرطاج.
هكذا إذن، بتمديد ولاية رئيسها وتضخيم صلاحياته بما يتلاءم مع ازدياد قدرته على العمل تحت تأثير المرض العضال، ستتساوى الجزائر بشقيقاتها وتستعيد مكانتها بينهنّ، ولن يكون بوسع أحد أن يعيب عليها تخلّفَها عن ركب الديموقراطية العربية. نقطة ضعفها الوحيدة في سباق الزعماء العرب إلى تلبية رغبات شعوبهم، هي استحالة توريث العرش لنجل بارّ ميمون، فلا «شبل من ذاك الأسد».
غير أنّ الجزائر ستتدارك هذا النقص. سيتبنى عبد العزيز بوتفليقة أحد أعضاء بلاطه الأوفياء، ممّن يدعون له صباح مساء بطول العمر ودوام الصحّة، فهو من فرط حبّه لشعبه لن يتخلّى عن سدّة الحكم إلا لمن هو أهل لها. ومن أحقّ بإرثه العظيم من الوزير الأول، عبد العزيز بلخادم. فقد بلغ الرجل من النزاهة حدّ انتقاد استحواذ الوزارة الأولى على بعض «صلاحيات الرئاسة الطبيعية»، وبلغ من الإيثار حدّ التنازل عنها طواعية لراعيه وحاميه. وقد أعطى بذلك صورة مشرقة عن إخلاص المسؤولين الجزائريّين وتجرّدهم الشبه رهباني من كل طموح أناني.
لم يحدث في أيّ بلد عربي آخر أن طلب مسؤول رفيع بمثل هذه الحمية المتّقدة تقليص صلاحياته الدستورية. هذا هو سبق الجزائر التاريخي مقارنة بشقيقاتها العربيات والدليل القاطع على أصالة ديموقراطيتها وتميّزها، أفلن يخرس المغرضون؟
* صحافي جزائري