دينا حشمت *
شهدت فروع بنك التنمية والائتمان الزراعي ازدحاماً غير عادي بعد قرار وزير الزراعة أخيراً «تأجيل صرف حصص الأسمدة الأزوتية المقرّرة للقطاع الخاص من شركة أبو قير، بعد التقارير الواردة للوزارة، عن تورّط هذه الشركات في القيام بعمليات تخزين واسعة للأسمدة»، وتخصيص هذه الحصص لبنك التنمية، كي يوزّعها بالسعر المدعوم. فاحتشد الفلاحون، رجالاً ونساءً أمام فروع البنك، محاولين الوصول إلى الموظّف الجالس على طاولته خارج مبنى البنك، ملوّحين ببطاقتهم الزراعية التي تدلّ على «حيازتهم» للأرض وتسمح لهم بالاستفادة من «الخدمات» التي يقدّمها البنك، ومن ضمنها الحصول على أسمدة بسعر مدعوم ـــــ أي بما يعادل 7،5 دولارات لـ«الشكارة» وزن 50 كيلوغراماً، بدلاً من 18 دولاراً في السوق السوداء.
وبالرغم من بؤس المشهد، ومن الانتظار الطويل، وسط زحام وشجار، وبالرغم من الإهانات التي يتعرّض لها هؤلاء الفلاحون ـــــ الأمّيون في أغلب الأحيان ـــــ من جانب موظّفي البنك، فإنّهم يُعدّون في الأرياف من «المستورين»، بل والمحظوظين.
فهناك غيرهم من الفلّاحين لا يمتلكون أساساً هذه البطاقة الزراعية السحريّة التي تفتح لهم أبواب بنك التنمية وتسمح لهم بالاستفادة من خدماته «الكريمة»، مثل الحصول على قروض مختلفة (بفوائد عالية جدّاً)، أو الحصول على جميع أنواع الأسمدة (لدى توافرها في البنك، لأنّ مسؤوليه غالباً ما يستولون عليها لبيعها في السوق السوداء). هناك إذاً من لا يحلم أصلاً بالدخول إلى هذه «الجنّة». هناك جماهير عريضة من الفلاحين المستأجرين لم يعد لهم الحقّ، بعد تطبيق قانون علاقة المالك بالمستأجر سنة 1997، في امتلاك ما يدلّ على «حيازتهم» للأرض.
مرّ اليوم 10 سنوات على تطبيق هذا القانون، الذي مثّل محطّة محوريّة في إخضاع الريف المصري لمنطق الليبرالية الجديدة. فبعد أن سمحت قوانين الإصلاح الزراعي أثناء الحقبة الناصريّة للفلّاحين بأن يستأجروا قطعة أرض في ظلّ شروط ضمنت لهم وضعاً شبه مستقرّ (عقود طويلة المدى يمكن توريثها، إيجارات شبه ثابتة، امتلاك بطاقة حيازة)، جاء القانون الجديد ليطيح كلّ هذه المكاسب، فحرّر قيمة الإيجار وأخضعها لمنطق العرض والطلب، فارتفعت من نحو ما يعادل 100 دولار للفدّان سنوياً إلى نحو 700 دولار أو أكثر. وإلى جانب رفع الإيجار، فإنّ الأرض يتمّ تأجيرها اليوم، وفي أغلب الأحيان، على أساس عقود شفهية لا تتجاوز مدّة سنة في أيّ حال من الأحوال، ولا تُسجَّل في الجمعيّة الزراعيّة. وبالتالي، لا يملك الفلّاح أيّ دليل على أنّه يؤجّر هذه الأرض، ولا يملك أيّاً من الميزات التي كانت الحيازة الزراعية تكفلها له.
عندما دخل هذا القانون حيّز التطبيق في سنة 1997، بعد فترة انتقالية دامت 5 سنوات، رفض الكثير من الفلاحين ترك أرضهم، واعتصموا داخلها، ونشأت حركة مقاومة للقانون الجديد في عدّة قرى. وأدّى قمع أجهزة الشرطة لهذه الاعتصامات إلى قتل 119 فلاحاً في السنوات الثلاث التي أعقبت تطبيق القانون (1998 إلى 2000)، حسب تقرير مركز الأرض لحقوق الإنسان.
لكن بسبب عدم نجاح هذه الحركات المتفرّقة في وقف الهجوم على المكاسب الفلّاحيّة، تشجع الملّاك الكبار في الضغط من أجل استرجاع الأراضي التي أُخذت منهم عقب الإصلاحين الزراعيين الأوّل والثاني، وهو ما أدّى إلى محاولات طرد العديد من الفلاحين من أراضيهم («سراندو» 2005، «دكرنس» 2006) وسقوط المزيد من القتلى والجرحى (171 قتيلاً من 2001 إلى 2004، حسب التقرير نفسه). لكن على مستوى تأثير تطبيق القانون على وضع الفلاحين، فإنه لم يؤدِّ حتى الآن إلى الظاهرة التي كان يتوقّعها المحلّلون، من تحوّل أغلب المستأجرين إلى جيش من العمّال الزراعيّين يجوبون الأرياف من قرية إلى أخرى، بحثاً عن مصدر للدخل. فما حدث بالفعل، هو أنّ أغلب الفلاحين باعوا كلّ ما يملكون من ماشية أو حلي، أو ضغطوا نفقاتهم إلى أقصى حدّ، أو أرسلوا أحد أطفالهم للعمل، أو اقترضوا اقتراضاً قاسياً، أو كلّ هذه الحلول معاً، كي يستمرّوا في استئجار الأرض.
فارتباط الفلاحين المستأجرين بأرضهم كان قويّاً لدرجة أنهم قرّروا عدم تركها، وتشبثوا بها ودفعوا الثمن غالياً؛ فهم كانوا في الوقت نفسه يواجهون المشكلات التي تواجه جميع المزارعين، من المستأجرين أو صغار الملّاك، بسبب تراجع دور الدولة في تسويق المحاصيل (قصب السكر والقطن)، وتحرير أسعار المستلزمات الزراعية وانخفاض الأسعار العالمية لبعض المحاصيل، وارتفاع أسعار السلع الزراعية من أسمدة وأعلاف. وواجهوا المشكلات نفسها المرتبطة بتدهور مؤسّسة التربية والتعليم، التي كانت تمثّل فرصة للارتقاء الاجتماعي بالنسبة لأبناء الفلاحين.
فالفلاحون المستأجرون يعانون من حالة الإفقار العامّة التي طالت المجتمع المصري (41 في المئة من المصريّين يعيشون تحت خطّ الفقر، أي بأقل من 2 دولار يومياً، حسب تقرير البنك الدولي الصادر في تمّوز الماضي). وحالة الإفقار هذه تؤثّر على أهل الريف قبل أن تؤثّر على أهل المدينة، وهذا ما يتجلّى من خلال ظواهر مثل عمالة الأطفال المنتشرة بشدّة في الأرياف، حيث إنّ 85 في المئة من الأطفال في الريف (ما بين 6 و15 عاماً) يتسرّبون من التعليم ويتّجهون للعمل بسبب حاجة أسرهم لعملهم، حسب دراسة اجتماعية صدرت أخيراً عن جامعة القاهرة.
فالفلّاحون المستأجرون هم أوّل من عانى من تطبيق سياسات الليبراليّة الجديدة في الريف المصري، لأنّ الأرض الزراعية هي أوّل ما أخضعه النظام لقوانين السوق؛ وكأنّ تحرير القيمة الإيجارية للأرض كان «بالون اختبار» لتحرير أسعار كل ما بقي من الأسمدة ومياه الريّ إلى الخبز. لكنّ التدهور السريع في أوضاع الفلّاحين، إلى جانب الصدى الواسع للإضرابات العمالية الأخيرة واحتجاجات الموظّفين، كل هذا قد يمنع إمرار باقي الوصفة الليبرالية. عندما يشعر صغار الملاك بأنّ الوقوف في طابور طويل أمام بنك التنمية بالبطاقة الزراعية لم يعد يجدي، قد يحوّلون «بالون اختبار» المقاومة الفلاحية في السنوات العشر الماضية إلى تجربة ناجحة لوقف سياسات الليبرالية الجديدة.
* صحافيّة مصريّة