زياد بردويل *
ما هي حقيقة ولادة وتطوّر هذه الموسيقى الصاخبة التي تخيف الحضارات وتحدث بلبلة في صفوف المجتمعات وتلقى اعتراضاً شديداً من حكومات الدول وخاصة الدول العربية. سمعنا كثيراً ولا نزال نسمع أن هذا النوع من الموسيقى هو منتج عبدة الشياطين وتشجّع من يسمعها على القتل وتعاطي المخدرات والجنس... هذا ما نسمعه، أو هذا هو ما يريدوننا أن نسمعه.
الحقيقة هي أنّ هذا النوع من الموسيقى لا علاقة له بالشر أو الشيطان، بل هو ناتج من سياسة العالم الجديدة التي بدأتها الدول العظمى في أوائل الثمانينيات. فالشيطان الأكبر هو السياسة الرأسمالية الاقتصادية والمشجّعة على الحروب. وما هذه الموسيقى إلا موجة ضخمة من الاحتجاجات على هذه السياسات. ويمكن هذا النوع من الموسيقى أن يُحدث انقلابات داخل الحكومات، وأن يمثّل خطراً كبيراً لأنه يتحدّث عن الحالات الاجتماعية وكل ما يمرّ به العالم ويفتح الأعين والأذهان على هذه القضايا ويسمح للشباب بأن يفكروا بجدية بما يحصل من حولهم. ولهذا السبب يحدث في مجتمعنا تماماً ما حصل في الغرب عند انطلاق هذه الموجة، وهو إيهام الناس بأن هذه الموسيقى شيطانية وتؤدّي إلى الخراب، والمقصود خرابهم هم وتحويل الناس من خراف إلى مفكّرين.
لنفهم هذه الموسيقى وخلفية مواضيعها القاسية والمظلمة، يجب أن نفهم فلسفتها. عندما رأى العالم أن كل التظاهرات والموجات «الهيبّية» الداعية إلى وقف حرب فييتنام، بدأت فرق الـ«هافي متل» تتصاعد، وعلى عكس ما سبقها فهي لم تكترث للسلام والحب بل العكس، فتمحورت حول الصراع الأزلي بين الشرّ والخير، وانطلقت من الفلسفة النيهيلية المستوحاة من الفيلسوف فريدريك نيتشي. النيهيلية هي نظرة مخيفة للعالم حيث تركّز على الواقع وما يحدث فعلياً بدلاً ممّا يجب أن يحصل والأخلاقيات والنظريات. وذلك لأنك إن رأيت فعلياً ما يحدث في العالم لرأيت أن التفكير بكلّ الأمور الأخرى من أديان ومبادئ لن يقدّم أو يؤخّر في الحقائق، وهي أن عالمنا ليس بألف خير بل هو متجه نحو الزوال. والخطر الذي يمثّله هذا النوع من الموسيقى على الأنظمة الليبرالية الرأسمالية الديموقراطية، هو أنها تهدّد التسويق الذاتي الذي تستعمله هذه الأنظمة لتزيد أرباحها، وأتباعها والدعم الشعبي لها.
ونتيجة هذا، تمّت إزاحة هذا النوع الموسيقي من الإعلام وشركات الإنتاج التي يسيطر عليها هؤلاء الرأسماليون الذين يخترعون ويفرضون على العالم الموضات الجديدة والفنّانين وينتقون من يريدون إنجاحه أو إسقاطه، ليس بناءً على تقويم قدراته الفنية بل على إمكان تحقيق أرباح أكثر ممّا يفسّر الموضة الجديدة للفنانات العاريات اللواتي ينبحن بدلاً من أن يغنّين.
إنّ موسيقى الـ«هافي متل» ليست موسيقى عبدة الشياطين، بل موسيقى تسليط الضوء على شياطين العالم المعاصر والأنظمة الرأسمالية المتحكمة بالواقع، التي لا تريدك أن ترى ما يحدث بل أن تسكت وترعى ما يطعمونك وأن تتقبّل الأمر. وجاءت هذه الموسيقى لتقول للعالم إنّ الحقيقة لن تحرّرك بل سوف تصدمك وسوف ترى ما هو عليه عالمك اليوم: غامض، أسود ومشوّش متجه إلى الخراب والدمار. إن قالوا لك أنت تعبد الشيطان لأنّك تسمع هذا النوع من الموسيقى فقل لهم لدي شياطيني ولديكم شياطينكم، لكن شياطيني أرحم من رؤسائكم ومعلّميكم وأكثر واقعيّة من كل أحلامكم وأوهامكم بمستقبل مزدهر وعالم ينعم بالسلام. وفي الاتجاه الذي يجري به العالم، عليكم أن تدركوا أن لا مكان لنا فيه، وأن القضاء علينا هو مفتاح عالمهم المثالي.
وفي النهاية أقتبس هذه الكلمات للفرقة التي بدأت الهافي متل «بلاك سابث» والمصنّفة على أنها شيطانيّة لعلّ هذه الكلمات تريكم حقيقة الشياطين التي يتكلمون عنها: «يجتمع الجنرالات في مجموعاتهم، مثل الساحرات في عظة سوداء، عقول شريرة تريد الدمار، مهندسو صناعة الموت، في الميدان الجثث تحترق بينما آلة الحرب تتقدّم، السياسيون يختبئون والفقراء يحاربون، الحقد والموت للبشرية، سمّ في عقولهم المبرمجة...».
* كاتب لبناني