عصام نعمان *
تتجه أزمة لبنان إلى مزيد من التعقيد والتمديد. قد لا تجد تسوية مقبولة قبل منتصف آذار المقبل، موعد بدء الدورة العادية لمجلس النواب. وقد تتمدد لغاية مطلع ربيع عام 2009، موعد الانتخابات النيابية.
بات واضحاً أن جورج بوش أفسد بتهجمه الأخير على بشار الأسد تسويةً فرنسية سورية كانت قيد الإعداد. ذلك أدى إلى عودة السياسيين المحترفين إلى التجاذب والتنابذ، والبلاد إلى التدهور الاقتصادي والاجتماعي. إلى أين من هنا؟
في لبنان، للخارج دور مؤثر في الداخل. البعض يعتقد أنه دور غالب وينعت لبنان بأنه بلد «خارجي»! الحقيقة أن ثمة قابلية لدى أهل الداخل للاستعانة بالخارج لدرجة قد لا يتورع بعضهم معها عن استدخال الخارج في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالاجتماع السياسي اللبناني المتنوع والمضطرب. ومع ذلك فإن أهل الداخل قادرون، إذا ما اتفقوا، على ردع أهل الخارج. متى يفعلون؟
الحقيقة أنهم لن يكونوا قادرين على الفعل إلاّ بعد تحقيق شرطين. الأول، تكوين شريحة واسعة من قياديين ومؤيدين وطنيين وفاعلين خارج التكتلات الطائفية القائمة. الثاني، انحسار نفوذ القوة أو القوى الخارجية المتدخلة في الساحة اللبنانية والمنحازة إلى واحد أو أكثر من الأطراف المتصارعين.
هذان الشرطان تحققا عشيةَ الانتخابات النيابية عام 1943 لفترة وجيزة كانت كافية لإقامة تحالفات سياسية مؤهِّلة للفوز ولتعديل الدستور واستكمال الاستقلال. ذلك أن تفاهم أركان الكتلة الدستورية بقيادة بشارة الخوري مع رياض الصلح وعبد الحميد كرامي وغيرهما من أركان الكتلة الوطنية الأستقلالية (الناشطة آنذاك في سوريا ولبنان معاً) وفّر لقوائم المرشحين الوطنيين المتحالفين أسباب الفوز في زمن هزيمة فرنسا المنتَدَبة على لبنان خلال الحرب العالمية الثانية.
وتحقق هذان الشرطان عام 1958 بتحالف شخصيات وتكتلات وطنية من كل الطوائف، متعاطفة مع عبد الناصر في زمن المدّ القومي ضد بريطانيا وفرنسا وحلف بغداد، فأمكن انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ومباشرة إصلاحات إدارية وتنظيمية واسعة. كما تحقق هذا الشرطان لمدة وجيزة جداً بين 1975 و1976 في زمن الحركة الوطنية ونصرة المقاومة الفلسطينية قبل أن تنجح أطراف داخلية متحالفة مع قوى خارجية في إثارة عصبيات طائفية جرفت الجميع في حرب أهلية.
اليوم، يبدو الشرط الخارجي متحققاً، بينما الآخر الداخلي آخذ بالتحقق ببطء. ذلك أن نفوذ الولايات المتحدة ينحسر باطّراد نتيجة تعثّر إدارة بوش في كلٍ من أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، بينما تطورُ التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر إلى جبهة عريضة متماسكة للقوى الوطنية والديموقراطية يتسمُ ببطء
شديد.
في ضوء هذا الواقع، تبدو القوى الوطنية والديموقراطية عموماً مدعوة إلى القيام بمهام ثلاث:
أُولاها، اغتنام فترة تمديد الأزمة لإجراء حوارات ودراسات مكثّفة حول تشخيصها، أي تحديد الداء أو العلة الأساس التي يشكو منها لبنان كشرط لوصف الدواء الفعال في معالجتها. ذلك أن قوى متعددة في المعارضة ما زالت تعتقد أن جوهر الأزمة يتلخص في مسألة الاتفاق على مرشح توافقي للرئاسة وعلى تأليف حكومة يكون للمعارضة فيها الثلث المعطل أو الضامن. والحال أن أزمة لبنان المزمنة مردّها إلى عدم وجود دولة بل مجرد نظام أو آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان طبقة سياسية قابضة، أركانها متزعمون في طوائف ورجال أعمال وأموال وآمرو أجهزة أمنية واستخبارات. والحق أنه ما لم تتفق القوى الديموقراطية الإصلاحية الحية على تشخيص أزمة لبنان بما هي غياب الدولة بالدرجة الأولى فإنها عبثاً تحاول حلّها بتسويات ظرفية سطحية لا تلبث أن تتآكل وتنتهي إلى انفجارات دورية وحروب
أهلية.
ثانيتها، المبادرة الى بناء جبهة وطنية عريضة للقوى الوطنية والديموقراطية والتقدمية والإسلامية الشورية وذلك من خلال مؤتمر وطني عام يشارك فيه ممثلون للقوى الآنفة الذكر. وتكون غاية المؤتمر بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة من خلال صوغ وإقرار وتطوير وتنفيذ برنامج للإصلاح الديموقراطي يرتكز على الأسس الآتية:
(أ) تنفيذ ما بقي من بنود اتفاق الطائف الذي أضحى موادَّ دستورية، لا سيما منها المادة 95 من الدستور المتعلقة بإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء (الأصح لتجاوز) الطائفية، والمادة 22 المتعلقة باستحداث مجلس للشيوخ لتمثيل العائلات الروحية (الطوائف) ويختص بالقضايا المصيرية والأساسية، وذلك بالتزامن مع انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لاطائفي، على أن تتساوى الطوائف الست الكبرى كما الأقليات المسيحية والإسلامية في عدد المقاعد في مجلس الشيوخ ضماناً وطريقاً لترميم الوحدة الوطنية وترسيخها.
(ب) وضع قانون ديموقراطي للانتخابات على أساس التمثيل النسبي في مجلس النواب، وعلى قاعدة «لكل ناخب صوت واحد» في مجلس الشيوخ، واعتماد لبنان كله دائرة انتخابية واحدة تتنافس فيها قوائم مرشحين مؤلفة من مستقلين متحالفين أو من حزبيين ملتزمين أو من خليط يجمع المستقلين والحزبيين في إطار جبهة سياسية ذات برنامج مُلزم. كل ذلك من أجل ضمان صحة التمثيل الشعبي وعدالته، فيكون مجلسا النواب والشيوخ بمثابة جمعية تأسيسية تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تكوين السلطات في سياق برنامج بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة.
(جـ) إقرار قانون اللامركزية الإدارية ووضعه موضع التنفيذ.
(د) وضع استراتيجيا متكاملة للدفاع الوطني يتمّ في إطارها تحديد دور المقاومة في المرحلة الانتقالية التي تجري خلالها إعادة بناء الجيش اللبناني وتحديثه وتعظيم قدراته تمهيداً لدمج المقاومة في جسمه المكتمل عديداً وعدةً ومعدات وتسليحاً وتدريباً.
ثالثتها، إجراء انتخابات نيابية تحت رقابة المنظمات الدولية المختصة بديموقراطية الانتخاب وحقوق الإنسان والمباشرة، بعد اكتمال عضوية مجلسي النواب والشيوخ، في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة وطنية جامعة تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ
برنامج الإصلاح الديموقراطي.
آن الأوان لتدرك القوى الوطنية الحية أن لا سبيل إلى توفير الأمن والاستقرار والإعمار والإنماء في ظل غياب كامل للدولة من جهة وإمساك الطبقة السياسية القابضة بمقاليد النظام الطوائفي المركنتيلي الفاسد من جهة أخرى. فالنظام أصبح خطراً على الكيان ولا سبيل إلى ترقيعه بالمزيد من الشيء نفسه، أي بوصفات علاجية طائفية أشبه ما تكون بالسم في الدسم، هذا إذا توفّر دسم في الطائفية الفتاكة. ولا ريب في أن استمرار البلاد سجينة هذا النظام الفاسد والمهترئ هو بحدِّ ذاته وصفة نموذجية لاستمرار تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية واستدخالها من طرف طبقة سياسية قابضة تعتبر لبنان مجرد ساحة وملعب وسوق ومعبر لمصالحها وصفقاتها
ومغامراتها.
صحيح أن الطبقات الشعبية تئنّ تحت وطأة غلاء المعيشة والبطالة واضطراب الأمن وتدهور الأخلاق العامة، لكنها تدرك أيضاً أن الحكومة البتراء تتألف من وكلاء وموظفين لدى الطبقة السياسية القابضة. من هنا تنبع خطورة التشارك مع هذه الطبقة في حكم البلاد. ذلك أن مشاركتها السلطة مع بقاء اليد العليا لها في الحكم تردّ إليها الاعتبار ويمدّ في حياتها ويشرعنها في نظر الجمهور المتضرر من أفاعيلها النكراء.
ليس المطلوب، بطبيعة الحال، رفع السلاح في وجه الطبقة القابضة ونظامها الفاسد لأنه ثبت بالتجربة أن العنف في مجتمع تعددي مُكلف ومرهق ولا أفق له. المطلوب انفصال تام عن هذه الطبقة الفاسدة ومكافحتها بمقاومة مدنية سلمية تستخدم جميع الوسائل المشروعة بنَفَس طويل وصبر وجَلَد ومثابرة مع حرص على فضح موبقات هذه الطبقة بعلم وأدب وموضوعية.
بين أن تتحمّل الطبقات الشعبية شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين إضافيتين من العمل المضني والأمل المتجدد بإجلاء هذه الطبقة الفاسدة عن مقاليد السلطة والتسلط، وبين أن تكابد سنةً وسنتين وخمساً كل عشر سنوات من ظلم النظام الفاسد، فلا شك في أنها تفضل الخيار الأول، رغم قسوته، على الخيار الثاني الذي ما انفكت تعيش فيه وله منذ الاستقلال ولو بدرجات متفاوتة من القسوة والظُلم والعوز والاضطراب الأمني والسياسي والمتاجرة والمغامرة في بلدٍ أضحى، في ظل الطبقة القابضة، أشبه بغابة سائبة تفتقر حتى إلى قانون الغاب.
* وزير لبناني سابق