strong> سلام الكواكبي *
في السنوات الأخيرة، أضحت حصيلة الصيد في البحر المتوسط تحمل إلى جانب الأسماك جثثاً لشبان من أفريقيا السوداء ومن شمال أفريقيا، من طالبي حرية أو مؤمّلين بحياة اقتصادية حلموا بأنها أفضل لهم في الشمال البارد. وإن استطاعوا العبور وتجنّب الموت، فمخيمات التجميع تنتظرهم، أو الاستغلال في العمل أوالتشرد في أزقة المدن الأوربية بحثاً عن الجنة الموعودة، إن لم يتم اعتقالهم وإعادتهم إلى نقطة الانطلاق، ليعودوا ويحاولوا مراراً وتكراراً رحلة الموت أو الخلاص اللذين، ويا للمفارقة، يترافقان بشدة في هذا الوضع المأساوي المزدوج.
ومن خلال التركيز الأوروبي على مسألتي الأمن والهجرة كنواتين للعلاقة بالجنوب، وبحثاً عن حلول لأزمة تواجه دول الجنوب الأوروبي كإسبانيا وإيطاليا أمام تدفق موجات الهجرة القاربية، التي تنتهي أحياناً بمآس ليست المجتمعات الأوروبية بعيدة عن تحسّسها، انصرفت الجهات الإدارية والعلمية إلى دراسة سبل الخروج من عنق الزجاجة والتعامل مع ملف الهجرة بفاعلية وتوازن، وإن أمكن، بقليل من الإنسانية. وآخر ما خلص إليه العصف الذهني هو اقتراح مفهوم جديد يحمل الغث والسمين، ولا يحمل تعريفه بنفسه، طالباً بالتالي أن تُوضع له التعريفات الضرورية إضافة إلى الخطوات المطلوب اتباعها لتطبيقه وهي: الهجرة المسيارة.
المطلوب إذاً، وضع تعريفٍ لهذا الشكل من الهجرة وتحديد أنواعها ومحاولة تمييزها عن الهجرة المؤقتة إن أمكن، وإضافة إلى ذلك، من الأفضل الوصول إلى تحديد الشرائح الزمنية المناسبة التي تجعل من هذه الهجرة ذات أعلى مردودية على الطرفين. وكذلك، يجب التوصل إلى تحديد الشرائح العمرية لمن يقع عليهم الاختيار للاستفادة إلى أقصى درجة من خبراتهم ومن قدراتهم الجسدية، وفي النهاية، يجب إيجاد المؤسسات الأكثر قابلية لإدارة مثل هذا النوع من التنقل المنتخب.
هذا التعبير يشق أكثر فأكثر طريقه في الخطاب الأوروبي الجديد الذي تحاول دول الشمال والجنوب صياغة نظرتها للهجرة من خلاله. ولقد أدخلته المؤسسات الدولية الاقتصادية في أدبياتها كما فعل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وكذلك بدأت التجارب من قبل دول الاتحاد الأوربي ضمن خطة لتنظيم الهجرة، من خلال اتفاقيات حكومية مع الدول «المصدرة» للمهاجرين في الجنوب. وقد اعتمد مؤتمر الرباط سنة 2006 خطوات تُسهل حركة العمال والأشخاص باتجاه الشمال على أن تكون مسيارة ومؤقتة لتنظيم التدفقات غير المتحكم بها. والتداخل حاصل بين مفهومي الهجرة المسيارة والهجرة المؤقتة، فهل المعني بالهجرة المسيارة أنها مؤقتة كما كانت عليه الحال في بعض التدفقات في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؟ لا يبدو أنها كذلك، فهي تستهدف فترة قصيرة من العمر العملي للمعني بها أو هي تُنتج سلسلة من الفترات القصيرة والمتكررة التي يهاجر بها هذا الشخص. ويمكن أن تعني أيضاً انتقالاً محدداً بعدة أشهر لممارسة عمل معيّن يمنح المستفيد خبرة تسمح له بنقلها إلى بلده الأصلي. ويمكنها أيضاً أن تربطه بعمل ما في مشروعٍ ذي فترة زمنية محددة يُغادر بعد انتهائه.
وبعيداً عن محاولة إيجاد تعريف واضحٍ يُميز هذا النوع من الهجرة، يتبيّن من خلال ما تقدم أن هذا النوع ليس بجديد وقد تم اعتماده، أو على الأقل اعتماد تعريفه المؤقت، حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي وخصوصاً للعاملين المستقدمين من بلاد المغرب العربي للعمل في المصانع والحقول والعودة في ما بعد إلى بلدانهم. وقد فشلت نظرية العودة هذه مما أدى إلى تشديد الدول الأوروبية من رقابتها على حدودها وفرض التأشيرات في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. وقد قامت بعد ذلك بإجراءات للمّ شمل العائلات سمحت للعمال باستقدام عائلاتهم والوصول أحياناً إلى الحصول على جنسيات دول الإقامة.
لقد أضحت القوانين الناظمة للهجرة قاسية أكثر فأكثر في دول الشمال. والسياسيون فيها يخضعون لضغوط من جزء من رأيهم العام تجعلهم يعتقدون بأن الحل يكمن في تشديد القوانين الناظمة وتعزيز الرقابة على الحدود. ولكنهم يعترفون في الوقت ذاته بأن اقتصادياتهم بحاجة إلى يد عاملة جديدة غير متوافرة في السوق المحلية، إضافة إلى الشعور المؤكد بشيخوخة المجتمعات الأوروبية وحاجتها إلى شباب يملأون المقاهي والأرصفة في دول الجنوب ذات المجتمعات الشابة. وفي المقابل، فهذا الوضع بنظر الأوروبيين قد يشجع من دخل بصورة نظامية على البقاء متجاوزاً الفترة الزمنية المحددة في تأشيرته، وذلك لوجود الطلب على خدماته ولو بصورة غير شرعية. الحل برأيهم يكمن إذاً في تشجيع عقود العمل ذات المدد القصيرة والقابلة للتجديد في حال السفر والعودة، وذلك بالاعتماد على فرضية أن عدداً كبيراً من المهاجرين لا يبغون البقاء إلا لفترات محددة، ولكنهم يبقون متجاوزين القوانين خوفاً من عدم استطاعتهم الحصول من جديد على تأشيرة دخول إن هم غادروا.
ومن خلال هذا التصور، اتفق المغرب مع إسبانيا على أن تستقدم الأخيرة 1200 عامل مغربي سنة 2005 و4632 سنة 2006 و10000 سنة 2007. ويرتفع الرقم ليصل في العام المقبل إلى 12000 للعمل في الحقول في مقاطعة الأندلس. ومن خلال تجربة السنوات القليلة الماضية، تبيّن للمسؤولين من الطرفين أن بنود العقود قد احترمت، مما دفع بهم لتطوير المشروع وجعله يشمل قطاعات أخرى كالسياحة والمطاعم. فهل هذا هو السبيل لإعادة التوازن إلى سوق العمل؟ وهل تجد حلاً للهجرة غير الشرعية أو تحل محلها؟
البحث قائم إذاً عن المردودية والفاعلية أكثر من التطرق إلى الجوانب الإنسانية والتنموية. وبالرغم من الاعتقاد غير المسند بالأرقام من أن هذا النمط المُعاد اكتشافه من الهجرة قد يشجع على تنمية مجتمعات بلد المنشأ، يظل القلق يكتنف أصحاب الرؤى الأخلاقية الذين، وإن اعترفوا بوجود مشكلة هجروية يتقاسم أسبابها الطرفان، يظلون يبحثون عن أساليب اجتماعية وتنموية على المستوى الكوني، تُحمل كل ذي مسؤولية قسطاً من العبء، وذلك من خلال تنبيه المجتمعات وأصحاب القرار إلى أن المعالجة من الزاوية الأمنية والشعبوية لهذا الملف شمالاً، والاستغلال الذي يصل أحياناً إلى درجة محاولة الاستنزاف المادي والحصول على مكتسبات سياسية من حكومات ديموقراطيتها منقوصة جنوباً، هما وجهان لعملة واحدة ضحيتها المهاجر فحسب. فالنساء المغربيات المطلوبات لقطف ثمار الفراولة في جنوب إسبانيا، يُشترط أن يكنّ متزوجات وأمهات، ويجب عليهن، كضمانة مبطنة للعودة، ترك أطفالهن وأزواجهن مدة العقد التي يمكن أن تمتد من 3 إلى 6 أشهر. هذا ما يحصل في المراحل الأولى من تطبيقات هذه الهجرة المسيارة، ولا أحد يدري ما سوف يحصل عند تطوّر الأخذ بها.
* باحث سوري