ناهض حتر *
خلال العقدين الفائتين، تحوّل الأردن إلى مختبر اجتماعي ـــــ سياسي لتطبيقات المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد. وبالنتيجة، نستطيع القول إنّ الاختبارات نجحت في إحداث تغييرات جذرية في البنية الوطنية الأردنية، بالحدّ الأدنى من العنف، وفي إطار تسلسل هادئ لانقلابات متتالية، تمكّنت من استيعاب ردّات الفعل والمقاومة الجماهيرية والمعارضة التقليدية للحرس القديم والعشائر والإسلاميّين، بينما جرى، منذ التسعينيات، تهميش اليسار والقوميّين، بحيث لم يعودوا جزءاً من المعادلة السياسية.
ويمثّل النظام الأردني حاليّاً حالة نموذجية من الأوليغارشية العالمثالثية، حيث تسيطر طبقة جديدة مؤلّفة من عدد محدود من رجال المال والأعمال والنفوذ، على كلّ مفاصل القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد. ووسط نمو استثنائي في قطاعات سوق المال والعقارات وتجارة الحرب، أصبحت الليبرالية الجديدة العقيدة الرسمية للدولة التي باعت موجوداتها الأساسية للرأسماليّين الأجانب ووكلائهم المحليّين من دون مقابل تقريباً، وتخلّت عن دورها الاقتصادي بالكامل، وعن حقوقها السيادية إزاء «المستثمرين» الذين حصلوا على النفوذ والدعم السياسيَّين لتسيير القرارات الاقتصادية، واستغلال الممتلكات العامة، واستصدار التراخيص اللازمة لتسهيل أعمالهم، كما في منطقة حرة «من كلّ قيد جمركي أو ضرائبي أو حتى قانوني».
وبينما تتعالى الأبراج في عمان، ويراكم صقور الطبقة الجديدة الملايين، بدأت استحقاقات المرحلة الأخيرة من الخصخصة، أي خصخصة الخدمات العامّة في الطبابة والتعليم، وسوف تشهد موازنة 2008 تحرير سوق المحروقات وشطب آخر بنود الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات الأساسية، وهو ما يهدّد غالبيّة الأردنيّين بالإفقار.
في الأثناء، استطاعت الليبرالية الجديدة الحاكمة، تفكيك البنى الأردنية التقليدية، وتحجيم القوى السياسية، وإحداث تغييرات ثقافية باتجاه الأمركة، ومنع أو تشويه تكوّن الوطنية الأردنية، والتوصل إلى حالة من الفراغ السياسي وانعدام الوزن النوعي لكلّ الأشكال القديمة من المعارضة والممانعة.
لكنّ الصفاء النظري للنظام الليبرالي الجديد في الأردن، أي التمكّن من تصنيع نموذج مخبري للشرق الأوسط المطلوب أميركياً، يستنهض بالمقابل نقيضه النظري، متمثلاً في يسار من طراز جديد، قد يتاح له أن يصبح نموذجاً للقوى المضادّة للأمركة على مستوى المنطقة.
المهمّات الملحّة المطروحة في الأردن هي، موضوعياً، مهمّات يسارية: فليس أمام المجتمع الأردني سوى إطاحة الليبراليين الجدد أو الانهيار الاجتماعي والوطني معاً. ذلك أنّ انهيار الفئات الوسطى والعشائر ينذر بانفتاح الطريق أمام تنفيذ مشروع الوطن البديل نهائياً. هذا ما يجعل الحالة الأردنية مختلفة نوعياً عن الحالة المصرية المشابهة من حيث اللبرلة الرأسمالية. فالمجتمع المصري القديم المعقّد، الطبقيّ التركيب، أكثر تدرّجاً من الناحية الاجتماعية ـــــ وإن كان فقراؤه أشدّ فقراً من المجتمع الأردني الحديث البسيط التركيب والعشائري، والمتحوّل، في غضون سنوات قليلة، من اللاطبقية، بل قل المساواتية، إلى انقسام حادّ بين أقلية مالية سياسية حاكمة وأكثرية مفقرة، ليس لديها إمكان المناورة الاجتماعية، إذ عليها أن تواجه الإفقار الشامل من دون أية بدائل.
فلم يعد في الأردن ريف تقليدي قادر على تأمين نوع من الحماية لسكّانه من ضغط الرأسمالية المتوحّشة (كما هو الحال في مصر وسوريا)، وبينما تحتكر الأقلية الحاكمة السياسة، وبالتالي المال السياسي، فإن الأردنيّين الذين ليسوا شعباً مغترباً، لا يتمتّعون بالهامش الذي تتيحه المصادر المالية السياسية والتحويلات (كما هو الحال بالنسبة إلى اللبنانيّين والفلسطينيّين).
إنقاذ المجتمع والكيان الأردنيين، منوط إذن ببرنامج لا غنى عنه للتحوّل الاقتصادي ـــــ الاجتماعي المضادّ لليبرالية الجديدة: إعادة بناء القطاع العام، إحياء دور الدولة الاقتصادي ـــــ الاجتماعي، إخضاع الاستثمارات للأولويات الوطنية، العودة إلى سياسات الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات وبخاصة الطبابة والتعليم والسكن والمواصلات. بمعنى آخر فإنّ إطاحة الليبرالية الرأسمالية هي الملاذ الوحيد أمام الأردنيّين للبقاء، وتالياً للتمكّن من الحفاظ على الكيان الأردني والهوية
الوطنية.
لذلك، نرى في الواقع الأردني الحيّ تحقّقاً لنظريّة الشهيد مهدي عامل حول الترابط العضوي بين الاجتماعي والوطني. فالخطاب الوطني الأردني يتجسّد في خطاب اجتماعي، بينما تميل الأغلبية المفقرة إلى خطاب وطني متشدّد. إنّ الوطنية الأردنية تنتقم لنفسها بحضور استثنائي انفجاري إزاء الإفقار والإلغاء المتجسّدين في مشروع واحد.
ألا يجعل ذلك من اليسار بديلاً وطنياً ممكناً؟ بمعنى وجود فرصة موضوعية لولادة قوّة يسارية متطابقة مع احتياجات البلاد، وقادرة على قيادة الأغلبية الشعبية نحو انتزاع القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
اليسار الأردني القديم ليس قادراً على تحقيق هذه الإمكانية بالنظر إلى الآتي:
1ـــــ عجزه عن التجدّد الأيديولوجي خارج التعلّق بالماضي السوفياتي الفائت بالنسبة إلى الأقلية، أو خارج الأطروحة الديموقراطية الليبرالية بالنسبة إلى أغلبية اليساريّين المشغولين بمسائل «الإصلاح» السياسي وأوهامه، على حساب المهمّات الاجتماعية الملحّة، واحتياجات الفئات المفقرة.
2ـــــ عجزه عن فهم القضية الوطنية الأردنية بوصفها قضية نضالية مطروحة في مواجهة الإمبريالية الأميركية والصهيونية، بل واتخاذه، تحت تأثير دعائيات منظّمة التحرير الفلسطينية، موقفاً مناهضاً من تلك القضية التي تحتلّ الموقع الرئيسي في وعي الأردنيّين.
3ـــــ عجزه عن كسر الجدار النفسي بينه وبين ثقافة الشعب المتمثّلة في ثلاث نزعات رئيسيّة هي التكوين العشائري، المساواتية، الإسلام (وليس التدين، فالأردنيّون مسلمون غير شديدي التديّن وغير متعصّبين).
4ـــــ عجزه المزمن، بسبب ضعفه التكويني وانفصاله عن الأغلبية الشعبية وتقليد «الجبهات» مع القوى «الديموقراطية» والقومية، عن تصوّر نفسه في موقع القيادة الوطنية.
لكنّ يساراً جديداً قادراً على تلافي هذه الأنماط المستقرّة من العجز ليس ببعيد المنال في الأردن. وهناك إشارات إلى ولادته تستحقّ الانتباه. ففي الرابع عشر من كانون الأول الجاري، أعلنت حركة يسارية أردنية جديدة تأسيسها في مواقع الكترونية محلية، هي «حركة اليسار الاجتماعي»، التي حدّدت بوضوح هدفها المركزي في قيادة العمل الاجتماعي والوطني لإسقاط الليبرالية الجديدة، وبرامج الخصخصة، وإعادة بناء القطاع العام، ودور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، وتأمين السيطرة الوطنية على الاستثمارات والسوق، وإعادة بناء وتوسيع منظومة الدعم الاجتماعي للغذاء والدواء والسكن والمواصلات ومجّانية الطبابة والتعليم في كلّ مستوياته. وأعلنت الحركة التي حيّت العشائر، تبنّيها الصريح للقضية الوطنية الأردنية، وافتتحت بيانها بالبسملة وبنصّ قرآني هو «ونريد أن نمنّ على الذين استضُعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمّة، ونجعلهم الوارثين».
وعلى الفور، بدأت مئات التعليقات بالتدفّق، بين الرفض الحادّ والتشكيك وعدم الفهم والترحيب الحار. وبينما أعلن عشرات المثقّفين والناشطين المستقلّين والمعارضين العشائريّين انتسابهم إلى الحركة الوليدة، استقبلت أوساط الحركة الشيوعيّة واليساريّة التقليدية الحدث كصدمة مركّبة من ثلاث مفاجآت:
ـــــ أولاً، استناد الحركة إلى النصّ القرآني ومبدأ العدالة في الإسلام، كرؤية تأسيسيّة للخطاب اليساري، ما كان يُعد في الحلقات اليسارية النخبوية المغلَقة خارج نطاق التفكير أو المخيال السياسي. ففيما انشقّ اليساريّون التقليديّون إلى فريق متحالف مع «الإخوان المسلمين» وآخر مستعدّ للتحالف مع الحكم على أساس وحدة العلمانيّين ضدّ الإسلام السياسي، تجْرؤ حركة يسارية على نبذ الخيارين معاً، متقدّمة لامتلاك تراث الإسلام باسم اليسار ضدّ «علمانية» الليبرالية الرأسمالية المتوحّشة، كما ضدّ السلفية المتوافقة مع تلك الليبرالية في ميدان الخصخصة وحرية التجارة.
ـــــ ثانياً، إعلان الحركة مبادرتها لقيادة النضال الاجتماعي والوطني لتحقيق أهداف مركزية تخلّت عنها القوى السياسية الرئيسية من القيادات التقليدية والعشائرية والإسلامية. وهو ما يُعد، في نظر الأحزاب الشيوعية الصغيرة والمهمّشة، نوعاً من «الطفولة اليسارية».
ـــــ ثالثاً، قدرة الحركة الوليدة على استقطاب نشطاء لم يسبق لهم الانتساب إلى اليسار، وخصوصاً من أوساط اجتماعية عشائرية، أذهلت اليساريّين التقليديّين الذين لم يستطيعوا تجديد دماء منظّماتهم منذ مطلع التسعينيات حين انهار الاتحاد السوفياتي.
لن نستعجل إصدار الحكم على فعالية الحركة اليسارية الجديدة، ولكن مجرّد ولادتها، وحيازتها الاهتمام، واجتذابها لأعضاء جدد، يمثّل علامة على دخول الأردن مرحلة المختبر المضادّ للّبرلة والأمركة.
* كاتب وصحافي أردني