يحيى فكري *
لا شك في أن الصراع الطبقي في مصر يشهد تحوّلاً غير مسبوق. هذا ما يقوله الجميع. قد لا يستخدمون في حديثهم أو كتاباتهم مصطلح «الصراع الطبقي»، لكنهم بالتأكيد يقصدونه. فيوماً بعد يوم يزداد اتساع الجماهير الفقيرة المنخرطة في معارك مطلبية تناضل ضد تدنّي الأجور وتدهور الخدمات، وتندفع إلى الشوارع بتحدٍّ واضح للنظام على امتداد المدن المصرية من الإسكندرية إلى أسوان. وقد يكون الانتصار الأخير الذي حققه موظفو الضرائب العقارية علامة فارقة على هذا التحول، هذا الانتصار الذي أتى بعد إضراب واسع واعتصام شارك فيه الآلاف أمام مقر مجلس الوزراء في وسط القاهرة لمدة 11 يوماً، ولم ينته إلا بعد إعلان واضح من جانب الحكومة عن الموافقة على مطالب الموظفين الخاصة بالأجور، وصرف مكافآت فورية لهم.
يُمكن بالتأكيد الحديث عن القسم الأعظم من موظفي الحكومة في مصر بصفتهم جزءاً من الطبقة العاملة، وإن كانوا لا يشاركون مباشرة في إنتاج السلع، وذلك بسبب مستويات معيشتهم التي تطابق مستويات معيشة العمال، وقدرتهم على شَلّ الجهاز الإداري شديد التضخم (نحو رُبع قوة العمل المصرية) الذي يؤدي دوراً مركزياً في إدارة توزيع السلع والخدمات، وتنظيم مداخيل الثروة على مستوى قومي. ولأول مرة منذ السبعينيات نشهد، عبر حركة موظفي الضرائب العقارية، إضراباً يشارك فيه 55 ألف عامل يحدث بشكل موحّد في كل المحافظات بطول مصر وعرضها. ولأول مرة منذ الأربعينيات نشهد إضراباً يطالب من خلاله العمال بزيادة أجورهم مباشرة، لا إضراباً ضد الامتناع أو التأخر عن صرف العلاوات أو الأرباح المقررة، أو أي بدلات مهنية أخرى. ولأول مرة منذ ثورة 1919 تشهد مصر إضراباً لقطاع من موظفي الحكومة، وهم الفئة الأكثر محافظة ضمن أقسام الطبقة العاملة عامة.
هكذا تعكس حركة موظّفي الضرائب العقارية، التي بدأت في أيلول/ سبتمبر الماضي وشهدت أكثر من تحرك كان آخرها الاعتصام المشار إليه، تحولاً جديداً في مستوى الصراع الطبقي في مصر، وربما حق لنا اعتبارها خطوة مهمة إلى الأمام بالنسبة للحركة المطلبية المتصاعدة منذ إضراب عمال غزل المحلة في كانون الاول/ديسمبر من العام الفائت. فاستجابة الحكومة لمطالب الموظفين المعتصمين في الشارع تحمل ضمناً رسالة إلى 6 ملايين عامل وموظف حكومي في مصر، تعاني أغلبيتهم الساحقة من تدنّ شديد في الأجور، بأن الإضراب عن العمل والاعتصام في الشارع هو سبيلهم لرفع أجورهم. هكذا يشاء 2007، الذي شهد تواصلاً لا ينقطع للنضالات الاجتماعية، ألّا ينتهي إلا بانتصار جديد للطبقة العاملة المصرية، مخلفاً وراءه سلة من الاحتمالات المفتوحة عما ستؤول إليه الأمور في 2008.
وقد تكشف لنا الملامح العامة للحركة المطلبية خلال العام المنقضي، والعوامل التي أدّت دوراً في دفعها وتطويرها، عن فرص المستقبل واحتمالاته. فسنجد أن الملمح الرئيسي للحركة في مجملها، هو تحديها واستعدادها السريع لتجاوز الخطوط الحمراء، وهو ما شهدناه بوضوح في الاحتجاجات على التعذيب، وفي اقتحام المخابز للاستيلاء على الخبز في عدة محافظات، وفي استعداد العمال والأهالي في كل الاعتصامات للقتال عند أي محاولة لفضّ اعتصامهم بالقوة. وعلى جانب آخر، رضخ النظام في كل مرة في النهاية للمطالب المرفوعة، كأنه يحاول امتصاص موجة الغضب مراهناً على المستقبل. وسنجد في كل المعارك التي دارت استلهاماً واضحاً لخبرات النضالات الجماهيرية على مستوى العالم خلال السنوات السابقة، مثل رفع شعارات مكتوبة بعدة لغات كسباً للتأثير الإعلامي، وأيضاً التخييم وتنظيم المطابخ الجماعية في الشارع، مثلما فعل عمال المحلة وموظفو الضرائب العقارية على غرار ما جرى في بيروت، هذا الاستلهام للخبرة يدفع في حد ذاته إلى مزيد من التحدي والثقة.
أما الملمح الأكثر أهمية فهو التأثير المتبادل ما بين القطاعات المنظمة (العمال) والقطاعات غير المنظمة من الجماهير، فالحركة التي أطلقتها سلسلة الإضرابات العمالية في مطلع العام أحدثت تأثيراً فورياً على فقراء المدن والريف، وأنتجت موجة متسعة من الاحتجاجات العفوية. وفي المقابل دفعت تلك الاحتجاجات العمال إلى التصعيد بالبدء بإضراب غزل المحلة الثاني واعتصام موظفي الضرائب العقارية. وعبر التأثير المتبادل تظهر بوضوح قدرة القطاعات المنظمة على المبادرة بالهجوم. فانطلاق الحركة جاء عبر إضرابات العمال، مثلما خرجت المطالبة برفع الأجور على أيدي موظفي الضرائب العقارية.
وسنجد الملمح الأخير في الطاقة الكامنة داخل الحركة لتجاوز حالة تفرقها وظهور فرص واضحة لتوحيد النضال، مثل انتشار الإضرابات العمالية بشأن المطالب نفسها داخل فروع صناعية متعددة، بعد إضراب غزل المحلة الأول، وانتشار التظاهرات المطالبة بتوفير المياه النقية بعد اعتصام أهالي «البرلس»، وتنظيم إضرابات تضامنية ـــــ التي تعدّ سابقة ـــــ مع إضراب غزل المحلة الثاني. وفي الوقت نفسه، تظهر في كل الاحتجاجات سهولة الربط ما بين المطلبي والسياسي: مثل ربط أهالي سيناء ما بين مطالبهم بتحسين شروطهم المعيشية ومعركتهم ضد ما تعرضوا له من قمع؛ وقيام العمال بسحب الثقة من النقابات الموالية للحكومة، الذي صاحب معظم الإضرابات؛ وتنامي حركة شعبية ضد التعذيب، لاستخدامه أداةً في التضييق على لقمة عيش الفقراء؛ وارتفاع شعارات سياسية تندد بالحكومة والإدارات المحلية في جميع الاحتجاجات على تدهور الخدمات.
بالنظر إلى تلك الملامح، يمكن القول بقدر من الثقة إن الحركة المطلبية الراهنة في مصر تميل إلى التصاعد. بينما يبدو رهان النظام المصري على المستقبل محاطاً بالشكوك، خاصة مع اندفاعه إلى مناطق وعرة مثل البدء بإلغاء الدعم على السلع، الذي يترقبه الجميع اليوم بتوجس شديد. لكن رغم الطاقة الكامنة داخل الحركة لتجاوز تفرّقها وطابعها المطلبي، لا يمكن أن تنجح من تلقاء نفسها في التوحد والتحول إلى حركة سياسية عامة. لا يمكن مثلاً أن تتبنى الإضرابات وحدها، التي تشتعل في مجملها على مطالب تتعلق بشكل أو آخر بالأجور، مطلباً عاماً مثل رفع الأجور على مستوى وطني ، فضلًا عن تبني مطالب من نوعية استقلالية الحركة النقابية أو الإصلاحات الديموقراطية. لن يحدث ذلك دون وجود جبهة سياسية واسعة، ذات نفوذ، ومنخرطة داخل الحركة، تدفعها في هذا الاتجاه. وهذا تحديداً هو نقطة الضعف الرئيسية. وقد تسفر المحاولات التي تجرى اليوم لإعادة إحياء حركة التغيير، عبر الربط هذه المرة بين المعارك المطلبية والنضالات الاجتماعية، عن ظهور تلك الجبهة... قد.
* صحافي مصري