أمين محمد حطيط *
في استراتيجيته الجديدة بشأن العراق، ومنها إلى الشرق الأوسط، اعتمد بوش المواجهة المباشرة الشاملة ضد التنظيمات الرافضة للمشروع الأميركي «لاجتثاثها» على أن يترافق ذلك مع الضغط والتلويح بالعمل العسكري ضد الدول الممانعة «المارقة»، وقد اعتمد بوش العمل العسكري رغم أن المعطيات القائمة ميدانياً وسياسياً من شأنها أن تمنعه من هذا الخيار. وعلى أساس ذلك قلنا عند تحليلنا لاستراتيجية بوش الجديدة هذه، إنها استراتيجية للقتل، وليست طريقاً للنصر. وهي استراتيجية ستواجه فئتين من الأهداف: دولاً ومنظمات:
ــ فمن حيث الدول ستكون إيران وسوريا الدولتين المستهدفتين أساساً، لمنعهما من إسناد أو مساعدة التنظيمات المقاومة، وقد ألقت أميركا بثقلها في المرحلة الأولى ضد إيران، عبر قرار العقوبات الدولية (القرار 1737) ثم التحرش والاستفزاز العسكري لمراكز إيران الدبلوماسية في العراق، والاستعداد لنشر بطاريات صواريخ الباتريوت في المنطقة لمواجهة الصواريخ الإيرانية إذا تدخلت في المعركة. أما بالنسبة إلى سوريا، فقد ركز على تهديدها وابتزازها عبر محاولات استعجال إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري (مع عرقلة التحقيق بقصد إطالة فترة الابتزاز ثم التجهيل).
ــ أما المنظمات، فقد خطط لاستهدافها وفقاً للمتاح الممكن بالتصور الأميركي: فبعدما أوكل أمر الصومال إلى إثيوبيا، ونفذت عملية خاطفة ضد المحاكم الشرعية الإسلامية هناك، اعتمدت في العراق القوات النظامية والعمل العسكري المباشر الذي ينفذ ضد المقاومة المتمثلة بجيش المهدي وبعض التنظيمات الإسلامية السنية والمنظمات القومية العربية. وقد أخذت أميركا على عاتقها تنفيذ هذه المهمة عبر تعزيز قواها بـ21500 عنصر في مهلة لا تتجاوز الأشهر الاربعة تبدأ في منتصف شباط الحالي.
أما فلسطين، فقد أوكل أمرها إلى رئيس السلطة محمود عباس، لتنفيذ حرب داخلية تتواجه فيها حركة فتح، وحركتا حماس والجهاد الإسلامي، المحسوبتان إرهابيتين في القاموس الأميركي. وبالفعل انطلقت تلك الحرب الأهلية، وبدأت جثث الفلسطينيين تتساقط كما خططت أميركا لها.
ويبقى أمر لبنان، وخاصة سلاح مقاومته التي هزمت أميركا وإسرائيل، وهنا تكمن المعضلة الأميركية الأساس، كما يبدو، إذ إن تجربة أميركا معه مريرة، منذ عام 1982، حيث فشلت بعد الحرب ــ الهزيمة لإسرائيل في لبنان، في كل محاولاتها لتعويض الهزيمة تلك:
ــ فشلت أميركا في استقدام قوات متعددة الجنسيات، تقوم فيها القوات الدولية بملاحقة المقاومة واجتثاثها. وجاءت بقرار ظنت أن الحكومة التابعة لها في لبنان، قادرة على حرفه في التطبيق (للقرار 1701)، ليحاكي ما كانت ترغب به في مشروعها الساقط والمرفوض، وفشلت في التطبيق هذا أيضاً.
ــ وفشلت حكومتها في لبنان في إقحام الجيش اللبناني (ذي العقيدة الوطنية السليمة والقيادة الحكيمة) ضد المقاومة في حرب تدمر الطرفين، وتتخلص عندها أميركا من الجيش الوطني، ما يفتح لها الباب أمام تنفيذ خطتها في «إعادة تأهيل الجيش»، كما تروج، وهي تقصد تغيير عقيدة الجيش ليكون جيش السلطة التابعة لها بدل أن يكون جيش الوطن والدولة اللبنانية بأرضها وشعبها كله. (وهنا المغزى الرئيسي للحملة على الجيش حالياً من السلطة).
في مواجهة هذا الفشل المتعدد الوجوه، رأت أميركا أن الحل الوحيد المتاح لها في لبنان للتخلص من المقاومة الممثلة في حزب الله، ينحصر في: «الحرب الأهلية»، حرب تؤدي إلى تشويه سلاح المقاومة (تصبح ميليشيا) وإلى إنهاكها وتقليص قوتها إلى الحد الذي يمكن معه إدخال قوى عسكرية تسدد للمقاومة الضربة القاضية.
أما الأساس المتصور لهذه الحرب، فهو فتنة سنية شيعية تكون امتداداً لما يجري في العراق، يرفدها قتال مسيحي ــ مسيحي إذا استلزم الأمر. حرب تكون عناصرها التنفيذية كما يبدو:
ــ الطرف الأساسي الظاهر: لبناني، يتمثل سياسياً ببقايا الحكومة التي تقود عملية الاستفزاز واجتراح القرارات اللازمة، ثم يكون دور عسكري للأحزاب المشاركة في هذه الحكومة، وفيها حزبان لهما تاريخ ميليشيوي وخبرة بالغة في الحروب الأهلية، (أحدهما نشأ في رحم الحرب وتلاشى في السلم وهو يحلم بالنهوض عبر حرب جديدة)، يضاف إليهما الحزب الثالث الذي أُعد على عجل ليكون له ميليشياه اللازمة في الخطة الموضوعة، لذلك تظهر الحكومة هذه كحاجة أميركية لا يستغنى عنها في الخطة.
ــ الطرف الرئيسي الخفي: أميركي، يتمثل بقيادة سياسية ميدانية (السفارة الأميركية) وبمجموعات أمنية تنفيذية كلفت عمليات القتل والتصفية والاغتيال، وستنفذ عملياتها بصورة خاصة ضد حزب الله بعد أن أعطى بوش الإذن لـ«السي آي إيه C.I.A» بتنفيذ ذلك!
ــ الطرف المحرك المساعد: إسرائيلي، وهنا لا نرى حاجة إلى مهارة إسرائيل في لعب هذا الدور، وخاصة إذا تذكرنا براعتها في لعبه خلال حرب السنتين (1975ــ1977) ونجاحها المنقطع النظير في تدمير لبنان عبر من «احتضنتهم» وسواهم.
هكذا تبدو الخطة المعدة للبنان، وهي كما تقدم، جزء من استراتيجية شاملة للشرق الأوسط تتركز على نشر الفتن لإضرام الحروب الأهلية، تكون بديلاً للحروب ضد الدول وجيوشها النظامية بعد أن بات النصر الأميركي فيها شبه مستحيل والدخول فيها حماقة وانتحار. إنها إذن فتن تريد منها أميركا التعويض عن الفشل والثأر ممن سببه.
وإذا كانت هذه هي الخطة، فهل ستكون الحرب في لبنان أمراً واقعاً؟ وهل سيرى اللبنانيون أنفسهم مجدداً يذبحون على الهوية؟ ويهجرون من بيوتهم التي تحرق أو تهدم عليهم؟ وهل سنرى خطوط التماس والطرق المقطوعة والحواجز والأتربة تسدها؟ وهل ستهدر المدافع ويؤز الرصاص ويتراكض الناس إلى زاوية آمنة في بيت أو تحت درج؟ أسئلة مخيفة مقلقة... فهل سيعود كل ذلك؟
إن الملتزمين اللبنانيين «الموعودين بالمغانم»، مستعدون لإعادة ذلك، لأن فيه «المال والسلطة والجاه»، وهم سيعملون بكل ما أوتوا من قوة لتنفيذه، لكن هل سيستطيعون؟ وإن فعلوا، فهل ينجحون؟ هنا نتوقف عند عوائق تمنع الحرب وتمنع نجاح الخطة، نذكر منها:
ــ وعي الأكثرية الساحقة من اللبنانيين للمخطط، ورفض هذه الأكثرية للدخول فيه، أضف إلى ذلك القوة والقدرة الحقيقية التي يملكها الفريق الرافض للفتنة، وهي قوة تمكنه من الحسم السريع لمشروع الفتنة عند انطلاقها. (استحالة تكرر مشهد 1975)
ــ وجود الجيش اللبناني بأعداد معتبرة نسبياً (يزيد على40000) وقدرته على حشد القوى اللازمة في موضع أو أكثر، وخاصة إذا كان هناك تعاون صادق بينه وبين الفريق الرافض للفتنة (وهنا يكمن سبب العمل على شل الجيش وتجاوزه أو تعطيله من فريق السلطة الحالية).
ــ تركيبة المعارضة اللبنانية المنوعة والممتدة على مساحة كل الطوائف، ما يمنح هذه المعارضة قدرة ومرونة في العمل تمنع استفراد فئة أو طائفة منها، فضلاً عن قدرتها على عزل الفريق الساعي للفتنة ومحاصرته، وهو في أي حال لا يستطيع أن ينشئ خطوط تماس يتمترس خلفها، ولا يستطيع أن يجري «تطهيراً فئوياً أو طائفياً أو مذهبياً سهلاً في أي منطقة» لاستحالتين، ذاتية وموضوعية (القدرة والميدان).
ــ قدرة حزب الله على الرد المباشر على الأطراف الأجنبية في الفتنة والنيل منها بعمل مؤثر (أميركا وإسرائيل)، في سياق المقاومة وكذلك قدرته على معالجة الحالات الداخلية باعتبارها امتداداً للعدو، يطبق بوجهها أصول العمل المقاوم ذاته.
على هذا الأساس نقول إن نجاح الفتنة، واستعار الحرب الأهلية في لبنان أمر ليس بالسهل نجاحه ويصعب على المخطط بلوغ أهدافه منه، وإن النار إذا أُضرمت ستلتهم من يضرمها، وقد يتضرر منها بريء هنا أو مسالم هناك قاده حظه العاثر إلى حيث نفذت أفكار شيطانية.
ولكن هل يمكن منع الفتنة؟
هنا نعود إلى الساعين إليها ومصالحهم، فنجد أن فتنة في لبنان باتت كركن تنفيذي للاستراتيجية البوشية المعتمدة لكونها حلاً إنقاذياً للمشروع برمته، لذا لا أتوقع أن يتراجع المخطط عنها، كما أنها أضحت الأمل الوحيد تقريباً لبعض «جماعات ثورة الأرز الأميركية» المقيمين عزّهم وتاريخهم على الإجرام والحروب وتجاوز القانون، فهي أملهم للإمساك بالسلطة.. لذلك لا أتوقع أن يتراجعوا من تلقاء أنفسهم... لهذا تبقى الفتنة محتملة الوقوع في لبنان، بدرجة ليست بالمتدنية، لكن يمكن منعها إلى حد بعيد، إذا عرف الفريق اللبناني المتشكل من المعارضة الوطنية كيف يتصرف ويظهر الحزم والقوة وكيف يرد، مع تمسكه بمطالبه الرامية إلى وضع حد للاستئثار بالسلطة من قبل من يسهل لأميركا تمرير مشاريعها على حساب الحق والدم اللبناني.
احتمال الحرب الأهلية قائم، ولكن نتائجها لن تكون كما يشتهي الساعون إليها، ويكون الحسم وتغيير المشهد ممكناً وواقعاً بأسرع مما يظن ويعتقد...
* عميد ركن م. ــ باحث استراتيجي