جاد قدسي *
أظهرت التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية أخيراً طائفة من الكوامن السيكو ــ ثقافية لدى شطر كبير من النخب في العالم العربي، البارز فيها على نحو مخصوص جَرَيَان الكلام على محور استراتيجي ايراني ــ أميركي انعقدت روابطه في العراق، وأفغانستان، لتشمل مفاعيله وفق لعبة المصالح والصفقات المنطقة العربية برمتها... تنتشر أصداء هذا الكلام كالنار في الهشيم، وخصوصاً بعد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ومعاونيه، وارتفاع وتائر النزاع الدموي في العراق تحت إشراف قوات الاحتلال الأميركي ورعايتها وتنظيمها. حتى لقد بدت معظم الكتابات المشار إليها، وكأنّها ضربٌ من ثأرية تفرّغ مكبوتها الثقافي السياسي في الأمكنة الخطأ.
سنقرأ مثلاً عن مثل هذا النقاش في التعاون الإيراني ــ الأميركي، في جملة خلاصات ترى على الإجمال «أنّ إيران بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان وتشتّت تنظيم القاعدة، وعلى الرغم من كل الجلَبَة عن الشيطان الأكبر، لديها قابليات كبيرة للتعاون مع الولايات في بعض المهمات الاستراتيجية المجدْوَلة في برنامج المحافظين الجدد برئاسة بوش»...
إنّ هذا هو كثيرٌ مما يُسوَّق من مقدمات ترمي إلى نتيجة مؤداها «وجود تواطؤ أميركي ــ إيراني للسيطرة على أفغانستان والعراق وصولاً إلى مدِّ النفوذ الأميركي ــ عبر الوكالة الإيرانية المدّعاة ــ إلى سائر جغرافيات الشرق الأوسط الإسلامية»...
لم يترك هؤلاء مجالاً لأي تساؤل منطقي عما إذا كان في إمكان القارئ أن يصدّق مثل هذا السيناريو العجيب الغريب. فقد جرت مقالاتهم على نسق البيانات السياسية الأيديولوجية المشحونة بيقين لا تشوبه شائبة. وذلك ما يجعل قول القائلين بهذه الخرافة، متركِّزاً على الوصول إلى نقطة يغدو معها تصوّر الحضور الإيراني في المنطقة من جانب المجتمعات العربية حضوراً معادياً لحاضر العرب، ومستقبلهم، بل ويغدو اعتبار إيران أيضاً الخصم التاريخي والاستراتيجي للهوية القومية العربية بلا منازع.
وعلى هذا النحو سوف يقع كتّاب الحملة المفتوحة والمبرمجة على ايران، في محاذير الافتراء غير المبرر، الأمر الذي أدى بمنطق هؤلاء إلى تجاهل العدو القومي المركزي للإسلام والعروبة وهو العدو الصهيوني، واستبداله بعدو مفتعل هو «الخصيم الفارسي» المزعوم.
وإذا كانت الحجة هي في القياس على المصالح الأميركية، وتحولاتها، وأحداثها، للوصول إلى هذه النتائج، فإنّه يبدو لنا في كثير من الوضوح كيف يتهافت مثل هذا القياس، ليظهر أنّ العدو الواقعي والممانِع للهيمنة الأميركية والغربية، هو تلك الجهة التي يُعمل على محاصرتها وضربها، وذلك في سياق الاشتغال المحموم على إزالة أي ممانعة أمنية أو سياسية أو ثقافية للعولمة الأميركية في المنطقة.
ومن دون أن نسترسل في استعادة ما ينشئه هؤلاء وأولئك من مقالات لا صلة لها البتة بواقع الحال، ولا بالحد الأدنى من المنطق الموضوعي، سوف نحاول في هذه العجالة بسط الكلام على حقيقة الصورة التي تحكم العلاقات المحتدمة بين واشنطن وطهران، وهي ــ على ما نتصوّر ــ علاقة احتدام وندِّية تصل إلى الصراع على روح المنطقة ومستقبلها.
ربما وسِعنا القول إن المواجهة الأميركية الإيرانية تنتمي في الحقيقة إلى مساحة مواجهة حضارية. ويجوز الكلام أيضاً على أنها مواجهة فكرية ومعرفية وحضارية واستراتيجية بمعنى الكلمة التام.
لقد بدت الرؤية الإيرانية في تعاطيها مع الحملة الغربية/الأميركية على مشروعها النووي السلمي مثلاً، متّسقة مع الرؤية الإجمالية لأطروحات المشروع الحضاري الإيراني الإسلامي العام. وهو مشروع يصل ولا يقطع مع محيطه العربي وسائر الدول الجوار، إذ يدعو إلى التكامل السياسي والاقتصادي والثقافي والديني مع هذا المحيط. وذلك على خلاف ما يُشاع من ذرائعيات سياسية تريد أن تستعيد «نغمات تصدير الثورة».
وفي وقائع المواقف ومفاعيلها وخلفياتها ما يكشف مغزى المقاصد التي تدفع بقوة نحو تشدد الغرب والولايات المتحدة الأميركية حيال الملف النووي. في هذا الخصوص يقول الخبراء الإيرانيون إن سلوك السياسة الخارجية لأميركا يُظهر أن واشنطن عملت في شكل منفرد في كل النزاعات السابقة من أجل توفير التفوق الأميركي. وهناك أمثلة كثيرة ابتداءً من أفغانستان والبوسنة وكوسوفو إلى العراق. ولسوء الحظ، فإن النظرية الأحادية الجانب للولايات المتحدة أضحت ذات صلة بشرعية الدول وأفعالها، وقد عبّر وزير خارجية أميركا عن هذه الصلة عندما أشار إلى حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، غير أن إيران ــ حسب مدَّعاه ــ لا تمتلك الشرعية لتنفيذ هذا الحق.
الموقف الأميركي هذا هو أبرز مثال على سياسة الهيمنة، ولا سيما التوجّه نحو كسر وإجهاض أي احتمال استراتيجي يمكن أن تقوم به هذه الدولة الإسلامية أو تلك من دول الشرق الأوسط. وثمة يقين لدى القيادة الإيرانية بأنه في ظل نظام الهيمنة اتّبعت الولايات المتحدة سياسة ثابتة في منع إيران من التحول إلى قوة رئيسية نامية من جهة وإلى قوة إقليمية ودولية مقتدرة من جهة أخرى.
من هذا المنظار يرى الخبراء والاستراتيجيون الدوليون أن أي محاولة من جانب إيران لزيادة قوتها النووية سينجم منها عواقب سلبية على موقع أميركا السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط. إن مثل هذه المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران تعكس حقيقة أن لدى إيران القدرة لكي تصبح موازناً إقليمياً يمتلك خصائص تزعج التفوق الأميركي. من هنا، تتمسك واشنطن بسياسة منع الدول غير السائرة في ركابها من امتلاك وسائل القوة، ولا سيما تلك الدول التي تختار تحديد مجالاتها السياسية والأمنية الخاصة بها انطلاقاً من بديهيات السيادة الوطنية وحفظ الهوية الثقافية والدينية. ويبدو في هذا السياق أن الهدف الأميركي النهائي في الشرق الأوسط هو التأكد من عدم إمكانية ظهور قوى مماثلة لقوة إسرائيل، ذلك أن تعاظم قوة إيران خارج المظلة الأميركية سيرفع من الأكلاف التي تدفعها واشنطن، وسيقوّض هدف أميركا في تطبيق نظرية تغيير النظام في إيران. ويمكن الإشارة هنا إلى أنّه في سياق مساجلته في منطق التعاطي الأميركي مع بلاده، يقول كبير المفاوضين في الملف النووي وعضو مجلس الأمن القومي الإيراني د. علي لاريجاني: إن الجمهورية الإسلامية في إيران لا تُدار طبقاً للرغبات والأولويات الأميركية، أو تبعاً لمنطق الأمركة، حسب تعبير هايدغر، وإنما سعياً نحو منطق جديد للحياة الاجتماعية.
بهذه الإشارة إلى طبيعة المواجهة الإيرانية الأميركية حول الملف النووي، يمكن الكلام على أنّ منطق هذه المواجهة إنّما يعكس لحظة صدام سياسية وثقافية وحضارية بامتياز.
لقد عقد صانعو الاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط، بعد الحادي عشر من سبتمبر، الرهان على إمكان «التحريك الخلاّق» لما سمي بـ«نظرية الدومينو الإيجابية». وكان واضحاً أن إيران اندرجت منذ ما قبل وصول المحافظين الأميركيين الجدد إلى السلطة ضمن ما أطلقوا عليه «محور الشر»، حتى إذا بلغت سياسات السيطرة الأميركية ذروتها في القرن الواحد والعشرين، وجد المحافظون الجدد أن زمناً آخر حلّ على الشرق الأوسط باحتلال أفغانستان والعراق. وبنوا عقيدتهم العسكرية والأمنية والسياسية على قاعدة ما قرروه: إن من علامات هذا الزمن أن يفضي إلى إطلاق الموجة الديموقراطية القصوى لتكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجدار التالي الكبير الذي ينبغي أن يسقط بعد أفغانستان والعراق في إطار نظرية الدومينو السالفة الذكر.
الآن تبدو عناصر الصدام الأميركي ــ الإيراني على حافة الهاوية. ولئن كانت طهران، انطلاقاً من التحولات الناشئة من الرمال العراقية المتحركة، تمارس حقها المفترض في التعامل مع الحركة الجيو ــ سياسية والأمنية في المنطقة، فإن واشنطن وجدت نفسها أمام حقائق لا مناص من الأخذ بها.
لكن يمكن القول إنّ الولايات المتحدّة الآن تمارس ضرباً من الاحتواء المزدوج على طهران. فمن ناحية تضاعف الضغوط وتسعى إلى تحشيد دول الجوار، ولا سيما دول الجوار العربي ضد ايران، ومن ناحية أخرى تسعى إلى التواصل المباشر مع طهران والإفادة من تأثيرها الجيو ــ سياسي لإيجاد مخرج ما من المأزق العراقي. الوجه الأشد خطورة في تداعيات المشهد هنا، هو أنّ تقنيات الدعاية الثقافية الأميركية أفلحت في بلورة عدو متوهّم للعرب. أولاً من خلال إشاعة أوهام صفقات استراتيجية مع ايران على حساب المحيط العربي. وثانياً عبر تسعير النزاعات المذهبية، وزرع ثقافة التخويف من وجود هلال مذهبي إمبراطوري آخذ في التبلور تقوده ايران تحت شعار بناء الشرق الأوسط الإسلامي.
وسط هذا الزحام من الانفعالات السياسية الثقافية التي يعيشها جمعٌ غفير من المثقفين العرب، يعود الكلام على وجوب العقلانية في رسم التوجّهات وإطلاق الأحكام ليأخذ مجاله الواسع من النقاش...
* كاتـب سيـاسي