ناصيف قزّي *
تبدو سياسةُ التيّار الوطني الحرّ من «وثيقة التفاهم» التي وقَّعَها العماد ميشال عون منذ سنة تماماً مع حزب الله بشخص أمينه العام السيد حسن نصر الله، إلى «ميثاق الشرف» المسيحي الذي وقَّعَه منذ بضعة أيام، ومن جانب واحد، مع حليفه الوزير السابق سليمان فرنجية، تبدو تلك السياسة واضحةً، ليس في عناوينها الوطنيَّة ومضامينِها الإصلاحيَّة ورؤيتِها المستقبليَّة فحسب، بل وأيضاً في التفاهمات التي أوصلَت إليها مع غير فريق لبناني، بحيث أتَت متناغمةً قولاً وممارسة. وقد ظَهَرَ ذلك لكلِّ أصحابِ البصائرِ الثاقبَة، والعقولِ النيِّرة، والنفوس البريئة، والنيات الصادقة، من أبناءِ شعبِنا الأبيّ، على الرغم من محاولاتِ التشويهِ التي تعرَّضَت لها، ولا تزال، تارة بالتهميش وطوراً بالتفكيك، من بعضِ المصطادين في الماء العكِر، من ساسةِ الزمن الهزيل.
تلك السياسةُ المتناغمةُ قولاً وممارسةً، هي في حقيقةِ الأمرِ انعكاسٌ صريح لسياسةِ الجنرال ميشال عون المنفتحة أصلاً، ولحكمتِه في التعاطي بالشأن الوطني العام، ولتبصُّره واستشرافه مسار الأمور. إنها سياسةُ اليدِ الممدودةِ الى الجميع... سياسةُ الانفتاحِ على القوى اللبنانيَّة كافة، والسعي الى التقاطعِ معها في جوهر المسألة الوطنيّة. إنها سياسة جمع الشمل بعد أزمنة الفرقة، سياسة السلام الحقيقي والشراكة البنّاءة... سياسة الحوار... الحوار الذي من دونه لا يستعاد الوطن ولا تقوم الدولة. وكم ردَّد الجنرال ذلك، ولا يزال يردِّد، أنه يؤيّد ليس فقط «أيَّ حوار يوصلنا الى حلّ المشكلة»، بل ويقدِّسُ الحوار «لأنه من أرقى مظاهر الديموقراطيَّة»... وكان أول من أطلق صرخته من أجل الحوار، من منفاه الباريسي، عشية عيد الاستقلال عام 2004.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى الساعة، ما زال يجهد، مع كل المخلصين من أبناء الوطن، لتصويب المسار السياسي اللبناني بعد انتهاء زمن الوصاية... المسار الذي سرعان ما أربكته، حالة انفعاليَّة عفويَّة متعاظمة ومبرَّرة، أعقبت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعها من جرائم في حق الوطن، والتي نتج منها حالة سياسيَّة أحاديَّة استئثاريَّة، لا يمكن تبريرُها... ما لبثت أن استحالت، ويا للأسف، حالةً استبدادية دمويَّة...!؟
واليوم، وبعدما اكتملت صورة المعارضة الوطنيَّة الشاملة، التي تجلَّت بأبهى مظاهرها في التظاهرات الشعبيَّة غير المسبوقة، وفي الاعتصام الحضاري السلمي، ظلت الحكومة اللبنانيَّة اللادستوريَّة تتمترسُ في موقعها وتتعنَّت، رافضة الاستجابة لنداءات غالبيَّة الشعب، وكأنها على كوكب آخر... فتكتفي بما يمليه قناصل بعض الدول من سياسات، حتى بتنا نظن أن الأنظمة المستبدة، تلك التي سقطت في نهاية الحرب الباردة، أعادت إنتاج نفسها في ربوعنا على إيقاع ليبراليَّة «النظام العالمي الجديد» المخادِعة. إنه عن حق زمنُ الانحلال الحقوقي والانحطاط الأخلاقي... زمنٌ وكأنَّه عكسُ الزمن.
في أي حال، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من كل العثرات التي اعترضت مسيرتنا الوطنيَّة، نرانا مقتنعين، أكثر من أي وقت مضى، بأن إيجابيات كثيرة وكثيرة جداً نتجت من وثيقة التفاهم، من وأد الفتنة الى معاودة الحوار والتفاهمات المتعددة، مروراً بوعي الشعب وتلاحمه، ولا سيما إثر حرب تموز العدوانيَّة وما أحدثته من تردّدات.
وإذا كانت «ورقة التفاهم» لم تحقق، بنظر البعض، مبتغاها، فلماذا، إذاً، هذا التهديد المباشر والمتكرر من قناصل بعض الدول وزعمائها، بالويل والثبور وعظائم الأمور؟ ولماذا الترويع بالقتل والتهديد بعودة الحرب الأهلية وما الى ذلك من شرور؟
يبقى السؤال، وفي ظل ما نعيشه من انقسامات وما نشهده من تجييش وترهيب واعتداءات، ماذا عن الميثاق؟ «ميثاق الشرف» الذي طلبت الكنيسة المارونيَّة من القادة المسيحيين توقيعه؟
ماذا عن هذا الميثاق الذي كان الجنرال عون قد أبرمه، وقبل أن تتقدم به الكنيسة مع ثوابتها الوطنية التي «أجمع عليها اللبنانيون»... أبرمه يوم عاد الى لبنان، وبالتحديد بُعيد زيارته سجين وزارة الدفاع، آنذاك، عندما أعلن للملأ أنه يترك أمر الحكم على تلك المرحلة السوداء التي مررنا بها، للتاريخ...!؟
وها هو بالأمس القريب، يُضطرُّ إلى إعادة توقيع هذا الميثاق، وبالحبر الصينيّ هذه المرة، والى جانبه سليمان فرنجيَّة المسامح، بعدما كادت رصاصاتُ الفتنة وحجارتُها وعِصِيُّها تأتي على كلِّ شيء...
ألم يفعل العماد عون ذلك ليؤكد، وللمرة الألف، إخلاصه المطلق للبنان وشعب لبنان، وإذا شئتم، لمسيحيّيه بالتحديد، وذلك بتجنيبهم أيَّّة منزلقاتٍ قد تُطيح السلم الأهلي؟
لقد وقَّع الجنرال عون، زعيم التيّار الوطني الحرّ، وسليمان فرنجيَّة، زعيم تيار المردة، على «ميثاق الشرف» الذي طلبت الكنيسة المارونيَّة من الزعماء المسيحيين توقيعه. فماذا عنكم يا بقية القادة المسيحيين؟ متى ستوقِّعون؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة