محمد سيد رصاص *
انتشرت بقوة نزعة فكرية ــ سياسية في المنطقة الممتدة بين القاهرة وبغداد، في السنوات الخمس السابقة، شملت الكثير من الأحزاب والتيارات السياسية المعارضة والمثقفين العرب، رأت في إدارة الرئيس بوش أداة تغييرية للنظم القائمة وللأوضاع السائدة. وفي وضع كهذا لم يجد السيد أحمد الجلبي نفسه غريباً أو شاذاً ولا حتى السيد كنعان مكية الذي قال في تصريح علني، بينما كانت بغداد تُقصف من الطائرات الأميركية، بأن صوت القنابل «يطربه». وهو وضع ــ إذا أردنا الدقة ــ جديد على العرب، حيث لم يكن الخديوي توفيق ولا المتعاونون الآخرون مع الاحتلال في العديد من الأقطار العربية في القرنين الماضيين، في وضع يتجاوز تلك الوضعية التي كانت عند الفرنسيين تجاه من تعاون من أبناء جلدتهم مع الاحتلال النازي.
عبر ذلك الاتجاه المستجد عند العرب طرحت الكثير من المقولات الجديدة: «الثنائية المتضادة بين الاستبداد والاحتلال»، و«الديكتاتوريات قد قضت على العوامل المحلية للتغيير»، و«كل القضايا، بما فيها الوطنية، تؤخذ بدلالة الديموقراطية»، و«العالم الذي أصبح قرية إلكترونية واحدة، لم يعد الداخل والخارج فيه في وضع انفصامي، بل هناك تداخل عضوي شديد بينهما»، و«الوطن ليس جغرافية أو تراباً أو حجارة، بل هو الوضع الذي يجد المواطن فيه نفسه».
من خلال هذا المناخ، وُجدت مقاومة فكرية ــ سياسية، هي أقل مما سبق عربياً، لغزو العراق واحتلاله عام 2003، ليس فقط عند العراقيين وهو ما يمكن تلمّسه من خلال قياس الفرق بين حالهم في ذلك العام وما تلاه من سنوات الاحتلال الأميركي وبين وضعهم في السنوات الثلاث اللاحقة للاحتلال البريطاني حتى ثورة 1920، وإنما أيضاً عند الكثير من الساسة والمثقفين والمفكرين العرب، إلى درجة وصلت فيها الأمور إلى حدود تبلور تيار فكري ــ سياسي كامل (هو الليبرالية العربية الجديدة) على صوت قرع طبول حرب 2003 الأميركية، أتى معظم أصحابه من يساريين ماركسيين سابقين كانوا بغالبيتهم من أتباع موسكو السابقين، أو من منبوذيها الماركسيين، وقد أخذ الكثير منهم موقفاً علنياً من احتلال العراق لم يكن خارجاً عما قاله أحد رموز المعارضة السورية من أن الأميركيين قد «أزاحوا نظاماً كريهاً وأنهم نقلوا المجتمع العراقي من الناقص إلى الصفر» (موقع «الرأي» الإلكتروني، 29 أيلول 2003، الناقل لنص المقابلة التي أجريت مع جريدة «النهار»)، وهو ما عاد إليه في الشهر الأخير من العام المذكور في جلسة خاصة، مبرراً مسوغات التحول الإيديولوجي ــ السياسي عن الماركسية، بأن «هناك رياحاً غربية ستقتلع الأنظمة، وعلينا أن نلاقيها باتجاه وبرنامج ملائمين».
يلاحظ، في هذا الإطار، أن (النزعة الأميركية) قد تولّدت في «الحاضنة العراقية» عند مثقفين وسياسيين معزولين عن مجتمعهم كانوا بمعظمهم مقيمين في الغرب، أو عند أحزاب إثنية أو فئوية تعرضت لاضطهاد شديد، ما ولّد عندها الكثير من النزعة الثأرية التي لا تلوي على شيء ولا يتملكها الوسواس حيال أي وسائل أو توسطات في سبيل تحقيق الهدف، فيما نرى وجود هذه النزعة، في بلدان عربية أخرى، عند بعض المعارضين الذين تعرضوا للسجن والمنفى والملاحقة، حيث تتوازى عندهم النزعة الثأرية ــ التي لا يؤمنون بسببها بقول لينين: «الحقد مرشد سيء في السياسة» ــ مع واقع فقدانهم التواصل والفعل والتأثير في المجتمع، الذي هو في واد آخر من حيث موقفه من الأميركيين. وتوجد هذه النزعة أيضاً عند معارضين أتوا للمعارضة في ربع الساعة الأخيرة التي أحسوا فيها بقرب هبوب «رياح التغيير» على وقع صدام النظام المحلي مع واشنطن، فيما كانوا في زمن القمع المعمم إما خارج العمل السياسي وإما في صف السلطة وإما ضمن مواقع سياسية حليفة لها. خلال السنوات الأخيرة، رُسم الكثير من السياسات والخطوط على إيقاع ذلك، وأتت (الإعلانات) القائلة والمعلنة بأن «عملية التغيير قد بدأت»، في لحظة سياسية كان فيها (الخارج) و(الداخل) في حالة صدام دراماتيكية قصوى: الآن، وصل ذلك كله إلى الفشل والحائط المسدود، بفعل تحوّل واشنطن الغائصة في الوحل العراقي عن نزعتها التبشيرية بالديموقراطية الليبرالية التي وصلت ذروتها الايديولوجية ــ السياسية عبر (مشروع الشرق الأوسط الكبير) ــ 13 شباط 2004ــ حيث عادت للاعتماد على بعض الأنظمة العربية التي صوّب الأميركيون الكثير من ذخيرة «نزعتهم الديموقراطية» نحوها في الفترة اللاحقة لحدث 11 أيلول، إما من أجل مقايضة هذا التحول بمساعدة هذه الأنظمة لها في العراق، وإما من أجل إيجاد أوضاع مريحة للطرفين يمكن أن تتيح للأميركيين امكانية حشد حلف إقليمي جديد ضد ايران عبر استراتيجية «معتدلين ضد متطرفين»، كما بشّرت بها الوزيرة رايس في الخريف الماضي وعاد بوش وأكد عليها في «استراتيجيته الجديدة»، وربما من أجل الاثنين معاً.
إذا أردنا الابتعاد عن الناحية المبدئية الوطنية، والاقتصار على الجانب العملي المتعلق بأداء سياسيين دائماً ما تفشل مراهناتهم وسياساتهم التي غالباً ما تكون مثل السيارة المتفجرة التي لا تصيب غير سائقها ومرافقيه، أفلا يجب أن يُطرح السؤال التالي: هل العمل السياسي هو مسرح بلا جمهور، حتى لا يُحكم على الممثل الرديء والفاشل بالذهاب إلى البيت، وبالمنع من اعتلاء الخشبة ثانية؟
* كاتب سوري