ناصيف قزّي *
بعد أكثر من شهرين على إطلاق ما سُمِّيَ «الثوابت المارونيَّة»، ومعها «مسوّدة ميثاق الشرَف»، وغداة صدورِ رسالةِ البطريرك المارونيّ في بِدءِ الصَوْمِ الكبير، وبُعيدَ إعلان «بيان مجلس المطارنة الموارنة» الشُباطيِّ الأخير، الذي تبنّى بوضوح ما «ظَنَّه بعضُهم محاولةَ انقلابٍ ترمي الى تغييرِ مسار البلد» والى «إحباطِ مؤتمر باريس 3»، ليشكر «أهل الخير من دول العالم الذين يسارعون إلى نجدتنا»، ويلقي اللوم على «المسؤولين بيننا» الذين «يُغرقون البلاد في خلافاتهم ومشاحناتهم وارتهان بعضهم للخارج»، بعد كل ذلك، وبغض النظر عما ترمي إليه بعض التعابير من دلالات، وبعدما كانت ورقة «الثوابت المارونيَّة» قد قدَّمت حلاً سياسياً متكاملاً لقي إجماعاً لبنانياً، أتت «رسالة الصوم» لتتطرَّق، من جديد، بالإضافة الى ما حملته من مفاهيم عامة في محبة الوطن والأرض والمواطنين، الى الشأن السياسي. وفيما أشارت الى ارتفاع الدين العام، والى شكوى المواطنين من الفقر والعوز، ذكَّرت بـ«إقفال العديد من المتاجر وخاصة في وسط العاصمة لما أقيم فيها من خيم نصبها المضربون الذين يقضون معظم أيامهم ولياليهم في تدخين النارجيلة ولعب الورق وقتل الوقت». وقد جاء هذا الكلام نافراً، كما لو أنَّه ليس للاعتصام أيّ هدفٍ وطني، وأنَّه لا مشكلة دستوريَّة للحكومة... والفريقُ الحاكم ليس متسلطاً ولا ضارباً عرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق.
ألم يكن من الأجدى بصاحب الغبطة والنيافة أن يقارب المسألة الوطنيَّة كما وردت في إعلان «الثوابت المارونيَّة»، التي أكَّدت أنه لا يمكن «لملمة الوضع المتفجِّر» إلا «من خلال تأليف حكومة وفاق توفّر مشاركة واسعة على مستوى الوطن(...) وإذا تعذَّر ذلك، السعي الى تأليف حكومة من مستقلِّين تعمل على إقرار قانون جديد للانتخاب(...) بغية توفير تمثيل صحيح لكل فئات الشعب»(...) يتم بموجبه «إجراء انتخابات مسبقة»... ويصارُ من ثَمَّ الى إيجاد حلٍ «لواقع رئاسة الجمهوريَّة»؟ ونحن على يقين، من أنه، وبمجرد الموافقة المبدئيَّة على ذلك، لا يبقى أحد في الشارع؟
في الواقع، ما من عاقل، ومهما أغرق في طوباويَّته، يمكنه أن يمر مرور الكرام على بعض تلك الأحكام والاستنتاجات والنعوت التي وردت في «البيان الشهري للمطارنة» وفي «رسالة الصوم»... والتي، وفي أحسن الأحوال، تتعارض مع روحيَّة ورقة «الثوابت المارونيَّة» الصادرة قبل شهرين، وعن المرجعيَّة نفسِها.
هكذا، إزاء مواقف الآباء الملتبِسة من بعض القضايا الوطنيَّة، والتي اعتدنا أن نشير إليها همساً، منذ أن كنا نلملم بقايانا في زمن التهجير ومآسيه، لا خوفاً من «محاكم التفتيش»، ولا احتراماً لموقع الكنيسة ورمزيَّتها في نفوسنا فحسب، بل لعدم إيذاء مشاعر المؤمنين، أولئك الودعاء الذي غالباً ما تلتبس عليهم الأمور، فلا يعودوا يميِّزوا بين الرسالة وحاملها.
إزاء هذه المواقف، وبغض النظر عما يمكن أن يفتقِدَ إليه بعض الكلام الوارد في النصوص من الدقة والموضوعيَّة، لجهة إحكام الربط بين المسبِّبات والنتائج، كان لا بد لي أولاً من أن أختلي بنفسي، كما في أوقات المحن والمفترقات والعثرات، لأستقرئ التاريخَ وأحداث التاريخ ومساراته كافة، فأرصُدَ فصولَ المعاناةِ وما عاشَهُ أجدادُنا من عذاباتٍ مدى قرون... قبل أن أسأل عن ماضي وحاضرِ ومستقبلِ كنيستي المارونيَّة... الكنيسة التي أسّسها، قبلَ أربعةَ عشرَ جيلاً، بطريركُ أنطاكيا الماروني الأول مار يوحنا مارون، على اسم ذلك الناسك العظيم مار مارون، والتي كانت، مع سواها من جماعاتٍ دينيَّةٍ مسيحيَّةٍ وإسلاميَّة، في أساسِ بناءِ لبنان. وكم تماهَيْتُ في رحلةِ الهواجِس والهمومِ تلك، مع كلِّ عذاباتِ شعبيّ، لأسألَ ما إذا كانت كنيستي اليوم، وفي ضوء ما تتخذه من مواقف، لا تزالُ حقّاً كنيسةََ الشعب... كنيسةََ المتألِّمين والودعاءِ والبسطاء... كنيسةَ المؤمنين... الكنيسةُ التي طالما حافَظَت على أصالتها الروحانيَّة والنسكيَّة، تلك التي شكَّلَت أبهى مظاهرها؟
أنا أعرف ان الكنيسة هي كنيسة الرجاء، لكني، وحقِّ السماء، صرت أفقدُ الرجاءَ كلما نظرتُ الى كنيستي؟
أفقد الرجاء عندما أسمع سيد الصرح يتحدث عن «زمن البؤس». وقد كرَّر ذلك مراراً وتكراراً، ليعودَ اليوم فيختمَ به «رسالة الصوم»... الرسالة التي من المفترض أن تحضِّرَنا الى زمن القيامة... زمن التجدُّد والانبعاث.
أفقد الرجاء عندما أرى بعض الآباء والمعاونين منشغلين بالشأن اليومي، من تشريفات واستقبالات ومواكبات وإطلالات وكاميرات، أكثرَ من انهمامهم بنشر رسائل التجديد في الكنيسة وفي حياة الجماعة، من الإرشاد الرسولي الى المجمع البطريركي وسواهما من الرسائل الكنسيَّة التي لا تنضب. حتى إن النرجسيَّة حَدَتْ بعضهم على التنظير لـ«حب الحياة» في إعلانات تلفزيونيَّة ترويجيَّة فئويَّة...!؟
أفقِد الرجاءَ عندما أسمع مسلسل تصريحات بعض صغار الساسة الموارنة التحريضيَّة، والمتكرِّرة بشكل منتظم من على درج الصرح، ومن دون أي محاولة من الكنيسة للَجْمِها.
أفقد الرجاء عندما أعي مدى التباعد القائم بين مسيحيَّة الصفوف الأماميَّة والكاميرات المكرَّسة ومناداة هذا بالبيك وذاك بالشيخ، وملكوت المسيح. أليس هو القائل، على ما جاء في عظة البطريرك لمناسبة عيد مار مارون، «إنكم إخوة، والكبير فيكم، فليكن لكم خادماً»؟
هل يمكن أن تتعاطى بكركي بالسياسة من بابها الضيق، هي الحريصة كلَّ الحرص على الوجود التاريخي للموارنة وللبنان، أم شيء ما يدور في أروقتها في غفلة عن سيِّدها؟ ومتى تتمُّ المصالحة بين الكنيسة والشعب، فتصبح الكنيسة كنيسة الشعب لا كنيسة المتسلّطين الذين أثروا من دون عناء... أولئك الذين يصعب عليهم أن يكسبوا ملكوت السماء؟
وبعد،
إلى متى سيبقى سقف بكركي حاضناً بعض الحقيقة وغافلاً أو متغافلاً عن بعضها الآخر؟
لا أريد، هنا، وبأي حال من الأحوال، أن أخدِشَ صفاءَ الإيمان وطهره عند المواطنين الطيِّبين. وإذا كان البعض يرى أنّي أخرُق سقفَ بكركي، أنا الماروني الحريص، الذي اطمأنَّ إليه، يواكيم مبارك، العالم الموصوف، «فاطمأنَّ قلبُه على الموارنة ولبنان» ــ ورد ذلك في مقدمة الخماسيَّة الأنطاكيَّة/أبعاد مارونيَّة، ص. XLV ــ إذا كنت حقاً أخرُق سقف بكركي... فلكي أرى الله!؟ أنا الذي أراه في عيون كلِّ الصامتين والحائرين والقلقين من أبناء شعبي... أراه في وجوه كلِّ المعتصمين الصادقين الصامدين والصابرين في ساحات البطولة والشرف... حتى يعودَ لبنان وطن الشراكة الحقيقيَّة... وطن الرسالة والرسوليَّة... وسيعود.
هل يدرك الأحبار مدى التوتر الذي يحدثه البيان الشهري للمطارنة الموارنة في نفوس الناس، عندما يجافي الحقيقة، قلْ بعضَها؟
يذكِّرني هذا البيان الشهري، الذي يصدر في الثانية عشرة ظهرَ كلّ أول أربعاء من الشهر، فينتظره الكثيرون من اللبنانيين، كمن ينتظر الفرج الآتي من مكان ما، لينصدموا، عند إذاعته، بمضمونه، الذي غالباً ما يأتي مشابهاً لبيانات الحكومة اللاشرعيَّة، فيتسبب لهم بارتدادات انفعاليَّة تنكأ عمق مشاعرهم... ولا سيما عندما يستمعون إليه وهو يخرج عنوةً، كلماتٍ ملحّنةً، من بين شفاه أمين سر البطريركيَّة المارونيَّة المطبَقَة. يذكِّرني هذا البيان الشهري، بصفارات الإنذار Les Syrennes، التي كانت تزعَقُ ظهرَ كلِّ أولِ أربعاء من الشهر في باريس، يوم كنت على مقاعد الدراسة في عاصمة الثقافة، فيتنبَّهُ الناس فجأة الى إمكان اندلاع الحرب، ليستدركوا فوراً أن ما يجري هو مجرد تجربة.
فلكي يخرجَ «بيان المطارنة الشهري» عن كونه صفارة إنذارٍ تجريبيَّة، ينتهي في الأذهان عند الانتهاء من إذاعته، أدعوكم، أيها الأحبار، الى التبصّر أكثر فأكثر في هموم الناس والوقوف على قناعاتهم، وذلك بعدم غضِّ الطرف عن الحقائق الأساسيَّة التي قد لا تأتيكم من أولئك الزائرين المداومين، المتزلِّفين والمأمورين، الذين يحلِّلون كل شيء بحسب مصالحهم الذاتيَّة.
أدعوكم، أيها الأحبار، للعودة الى الناس والوقوف بجانبهم أكانوا في الطرق والساحات، أم في المنازل والمعابد والحقول؟ ألم يفعل ذلك الرسل والقدّيسون؟ وهل يعقل ان تكون الكنيسة على الحياد أمام جيش محتل أو حكمٍ مستبدّ أو سلطة جائرة... مهما تكن المبرِّرات؟
واسمحوا لي هنا أن أعود الى كتابات أحد جهابذتنا الأفذاذ، وهو واحد منكم، المطران أنطوان حميد موراني في كتابه طريق الإعجاب بالله، إذ يقول، مستلهماً رسالة بولس الرسول الى أهل روما: «السلطة هي أداة الله لخيرك، لكن خَفْ إذا فعلتَ الشرَّ، فإنها لن تتقلَّد السيف عبثاً... ولذلك لا بد من الخضوع، لا خوفاً من الغضب فقط، بل مراعاة للضمير أيضاً. فمثل هذه الطاعة هي للخير العام. والسلطة هي من الله. لكن لها حدوداً. فالسلطة وُضعت لخيرنا، ومتى لم تعد تحافظ على خيرنا بل تناقضه، فإذّاك لا بد من مقاومتها حتى الثورة». أليس هذا ما عُرِف بـ«لاهوت التحرير»؟ أليس في هذا الكلام ما نحن حقاً بفاعلين؟
عودوا إلينا بالبساطة والمحبة، أيها الأحبار، وعلِّمونا المقاومة... مقاومة الشر... والشر بيننا ومن حولنا. علّمونا مكافحة الفساد... والفساد مستشر في كل مكان. دعوا «غضبنا المقدَّس» يُدرِك، ولو لمرَّةٍ، مبتغاه. أعيدونا الى «نداءاتكم الخمسة»، تلك التي أزاحت يوماً عن صدورنا كابوس الخوف والذل في زمن الوصاية. ثم أعيدونا معكم الى الله... الى السماء وتعاليمها... الى الروح وصفائه. انبذوا الأحقاد واجمعوا شملنا. أعيدونا من عثار... ثم علّمونا من جديد فعل المحبَّة وفعل الإيمان وفعل التوبة وفعل الرجاء... وكلّ الوصايا... التي ما زلنا، ومنذ طفولتنا، نرتجف عند سماعها كي نلتزم... ولو كان ذلك مرهوناً بضعفنا البشري.
بكلمة، أعيدوا إلينا كنيسة الرجاء... لكي يعود إلينا الرجاء...!؟
اصغوا إلينا، أيها الأحبار... فمن حقنا أن تصغي الكنيسة إلينا وأن تسأل عن همومنا، في وقت تبدَّد فيه الحكم وتسلَّطت الحكومة وانتُهك الدستور وازدوجت معايير الأمم ومواثيقها... فأنتم الأب الذي يُفترض به أن لا يفرِّق... وأن لا يعامل الجلاد والضحية المعاملة نفسها.
ثم، هل يعني توقيعنا الميثاق، «ميثاق الشرف»، أن نتخلى عن حقِّنا الديموقراطي المشروع في الاحتجاج بشكل سلمي؟ وأين وجه الشبه بين هذا التحرك والرصاصات القاتلة؟
هل يَعقُل أن لا ترى «رسالة الصوم» الكبير من دلالات للتحركات الشعبيَّة المعترضة، سوى بعض السلبيات، من «شلّ الحركة الاقتصاديَّة» الى «العادات الدخيلة على مجتمعنا»، مروراً بـ«بلبلة الحياة الاجتماعيَّة»؟
ومنذ متى كان مجتمعنا مجتمع الخنوع والانهزام والقبول بالذلّ والرضى عما يجري من دون أية مساءلة؟ وهل «محبة الوطن» تفرض علينا الصمت إزاء الأخطار التي تهدِّد الوطن؟
هل نسي صاحب الغبطة والنيافة أنه وافق الإكليريكيّين في غزير وشجَّعَهم، يوم كان مدرِّساً في أواخر الستينيَّات من القرن الماضي، شجَّعهم على التجمهُر والاحتجاج بالعنف واقتحام الصرح والصراخ في وجه سيِّده، آنذاك، الكاردينال بولس المعوشي، للمطالبة بحقوقهم البسيطة؟ هل نسي؟ وأين البساطة في قضيتنا اليوم؟ أليست قضيَّةً كيانيَّة تلامس حدَّ ضياع الوطن؟
وبعد،
نسألكم، أيها السادة، أن تُخرجوا بعض الأحبار من اللوحات الإعلانيَّة والصور الترويجيَّة لـ«حبِّ الحياة»، لأنَّنا، نحن المسيحيِّين بالتحديد، ندرك تماماً أننا «نحيا لنحب»... فالحب عندنا هو الغاية الأساسيَّة وليست الحياة. ألم يرد في «رسالة الصوم» أن «المحبة هي الألف والياء في الدين المسيحي»؟
أخيراً، تؤرقني كنيستي... كنيستي العجوز. فما أخشاه، بعد ما شهدناه ونشهده من مفارقات، هو أن يكون «مجلس المطارنة»، بناءً على وشايات كاذبة ومضلِّلة، قد اتَّخذ قراره بالصلب... كما حدث لنا مرّة في أورشليم منذ نيف وألفين... فتبقى الساحةُ، عندئذ، مفرغةً لذاك «الذي يتزيَّا بملاك النور»... ذاك الذي حذَّرنا منه بولس الرسول في رسالته الثانية الى أهل قورينتوس.
أخاف من «ملاك النور» هذا... لكن حكاية شاوول ماثلة في قلب التاريخ... لتزفَّ البشارة وتملأ الزمان فرحاً ورجاءً. الكنيسة لا تشيخ... إنها تجدُّد دائم... كما المسيح في صورته الأزليَّة... و«أبواب الجحيم لا تقوى عليها»...!
وختاماً، أرجوكم في المرَّة الثانية، أيها الأحبار، أن توقِّعوا الميثاق، «ميثاق الشرف»، بأنفسكم قبل أن ترسلوه الى بعض الذين كان من المُفترض أن يوقِّعوه، علَّهم يخجلون... كي لا يعود إليكم، في نزاعه الأخير، لتمشحوه...!؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة