ميخائيل روحانا الأنطوني *
أتى في نصّ الثوابت:
«يعيش اللبنانيون اليوم، وبخاصة الموارنة من بينهم، فترة حرجة من تاريخهم، تكثر فيها الأسئلة حول مصيرهم ومصير وطنهم... فالوطن أصبح في مأزق يهدد وجوده وكينونته، وينذر بارتدادات بالغة الخطورة على المنطقة بأسرها... والشعب تتجاذبه تيارات متناقضة ومحاور إقليمية متناحرة، فأخذ بعضه بالاصطفاف وراء هذا المحور أو ذاك ... والدولة أضحت مهددة بتقطيع أوصالها، تطغى عليها الانتماءات الطائفية وصراعات القوى والمصالح الفئوية، وبات دور المسيحيين فيها مهمّشاً، ولم تعد تقوى على القيام بدورها في توحيد المجتمع اللبناني والحفاظ على أمنه وكرامة الإنسان فيه، ونيله حقوقه الأساسية».
إن هذه المعطيات، كما ورد في البيان، هي ما استدعى طرح الصّوت من قبل كنيسةٍ تمثل شعباً، مستندة إلى مسؤولية تاريخية حرّمت على نفسها التخلي عنها، ألا وهي بشكل خاص: «قيام دولة الاستقلال، وإرساء النظام البرلماني الديموقراطي الحرّ... والتصدي للأخطار التي تهدّد وجود الوطن، ومستقبل الشعب، واستمرارية الدولة».
وبالرغم من أن هذه المعطيات المعروفة من الجميع، والتي يشكو الكل منها، هي أكثر من كافية لدقّ نفير الخطر، تبقى معطيات لا أكثر، قوّةُ حجّتها وضعفها يكمنان في إبراز الأسباب الجوهرية التي أدت إليها. وهذه الأسباب تستمد من الأجوبة عن أسئلة مثل:
ما الذي جعل الموارنة في تساؤل جديّ حول مصيرهم ومصير وطنهم، وجعل خوفهم يتعاظم على مستقبلهم؟
وما الذي أوصل الشعب والدولة والاستقلال والنظام البرلماني الديموقراطي الحرّ والوطن بأسره إلى وجود مهدد؟
إن وضعَ الإصبع في الجرح النازف يؤلم، وأول المتألمين هو صاحب الجرح نفسه، إذاً المارونية كنيسة وشعباً. ولا عجب في ذلك إذ هي ملتزمة بما أتى في الإنجيل المقدس: «من أُعطي الكثير طلب منه الكثير». إذاً، ونظراً لعدم اعتراض أي فئة لبنانية على ما أتى في مقدمة بيان الثوابت والتأييد العارم الذي رافقه، نرى أن كافة الأطراف اللبنانية تؤيد كل ما يُطالب به «سيد بكركي» على أن يرتاح الموارنة والمسيحيون من جديد إلى مستقبل وطن الجذور لبنان، والحرّية والديموقراطية فيه. بهذا يكون إخوتنا اللبنانيون كافة، لما يكنّونه من احترام لنا وإرادة باستمرار العيش معنا وعدم فقدان لبنان لكينونتنا، يتركون لصاحب البيان والثوابت بأن يكمّل ما بدأ ويضع الآلية لإنقاذ ما يطالب بإنقاذه والوصول إلى ما عبّر عنه من رغبة من خلال الثوابت. وكأنهم يقولون بالعامية: «إنتو فصّلو ونحنا منلبُس». فأيّ تفصيل يمكن أن يُستشف من نصّ الثوابت، يترك تأثيراً صالحاً، ويسهّل على اللبنانيين كافة التوصل إلى ثوب دافئ يلبسونه رَدْءاً لبرودة المناخ العالمي تجاههم.
إن المبدأ الأهم لنجاح مبادرة ما هو أن تخلو من التناقضات، إلا إذا كان المقصود من التّضاد بين مبادئها إظهار الحسن على حدّ قول الشاعر: و«الضد يظهر حسنه الضد». وعليه، فإننا نرى حاجةً لتسليط الضوء على مفاهيم الثوابت كما وردت، وبخاصة الثوابت الأربع الأولى: الحرية ــ العيش المشترك ــ الديموقراطية التوافقية ــ نهائية الكيان اللبناني.
إنه لمن الواضح بأن ثابتة العيش المشترك تضع الحرّية على محك المسؤولية في التفهم والتفهيم والتفاهم والاحتمال والصبر، وبأن ثابتة الحرّية تضع الديموقراطية التوافقية على محك ترك المجال للمتنفسات وفسح المجال للتسامح والخيارات الخاصة والضرورية لديناميّة التطوير، وإلا بطلت المعادلة مع بطلان وجود مركباتها المتميّزة، وأهمها الأنا والآخر والخير المشترك، الذي لا يمكن أن يُبنى إلا على العدالة الراشدة (أي المبنية على الحكمة ومخافة الله) وبالتالي، تأتي ثابتة «نهائية الكيان اللبناني» لتضع على المحك الثوابت الثلاث الأولى لأن أي خلل في التوازن بينها يؤدي إلى ما نحن عليه اليوم في لبنان. واستنتاجاً نلفت إلى أنه لا حرية مطلقة في المجتمع الإنساني. فالحرية الذاتية يحدّها احترام حرية الآخر، والديموقراطية التوافقية تحدّها ضرورة الخروج من المآزق بقرار ما ــ وهذا أمر مشهود له في حياة أي عائلة وينصح به الأزواج كافة ــ والعيش المشترك تحده العدالة الاجتماعية، فلا يأكل الحكام الحصرم ويضرس الشعب. لكن الثوابت لم تأت على ذكر العدالة الاجتماعية كما انها لم تدعُ الجميع للتساؤل: ماذا يفيد اللبنانيين إن ربحوا، لا «باريس ثلاثة» فقط، بل العالم كله، وخسروا لبنان؟ من هنا نرى أنه، إذا ما احترمنا حكمة الله الواردة في الكتب المقدّسة كافة، والتي لا يمكن أن تتناقض مع ذاتها، يمكن أن تختصر الثوابت الأربع الأولى المذكورة أعلاه بواحدة وهي العدالة. فهل من جواب أفضل من هذا عن السؤالين السابقين؟ هل يمكن لدستور الطائف بما هو عليه أن يؤمن هذا الجواب؟ أليس خلف الثوابت بعض من ملح العدالة المنشودة كي تضمن للبنان سلاماً أفضل مما نتوقعه في حال استمرار سلامه، مبنياً على تمييز طائفي أو فوقية مالية أو عسكرية؟
العدالة في ظرف لبنان الممتد من عام 1989 لغاية اليوم مرهونة بأن يخرج الفرقاء كافة بربح عادل ودائم، لا فقط بمعادلة «لا غالب ولا مغلوب» وأولهم وأبداهم بالربح هو الشعب بحد ذاته، الذي هو بالنتيحة، مصدر السلطات. للأسف نرى اليوم بأن الطائف لم يحقق هذا التطلع. فما الذي وَعدَتْ به الثوابت مما يُطمئن الشعب كافة، لا المسيحيين فقط، ويشعره بأنه قد استعاد حق تسليم زمام البلاد إلى من يمثله خير تمثيل؟
نعم. لقد قدّمت الثوابت شيئاً هاماً للغاية، ألا وهو مضمون البند السابع منها الداعي إلى: «الإلحاح على تطبيق اتفاق الطائف بكل بنوده، مع توضيح ما زال غامضاً فيه، وتصحيح الشوائب التي ظهرت في ضوء الممارسة، بغية تحسين أداء الدولة، وتحصين الوطن ضد الأخطار».
هذا هو أهم ما تقدَّمت به الثوابت ولو لم يكن سوى طرح. فمَن المخوّل البحث به ؟
إن الكنيسة المارونية، بطرحها هذه النقطة بالذات تحاول مجدداً إعادة هذا الاتفاق إلى قواعده الصحيحة أي إلى قلب الوطن ليُدمغ بالدمغة اللبنانية المميّزة، التي هي «لا للشرق ولا للغرب»، بل للعبقرية اللبنانية التي مدحها الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى أخيراً.
والأمر الثاني الذي رفعته الكنيسة المارونية من خلال الثوابت، والذي لا يقل أهمية عن الأول، هو الثابتة غير المكتوبة، التي عليها تقوم العدالة الفعلية، ألا وهي عدم تمسُّكها، بعد اليوم، بالرئاسة الأولى. بهذا يكون بيان الثوابت قد رفع إرادة إعادة النظر ــ والتغيير ــ والعودة إلى الديموقراطية الصحيحة ــ من مستوى وثيقة الطائف والدستور المكتوب إلى مستوى الميثاق غير المكتوب، وخصوصا أن الاثنين قد باتا معطّلين تعطيلاً كاملاً. من هنا، يمكن القول بأن ثوابت البطريركية تسعي جدياً للانتقال بلبنان من الجمهورية الثانية إلى جمهورية ثالثة، تكون للشعب فيها كلمته ويرى فيها مكاسب واضحة حققها في بداية ألفية ثالثة بعد دهور من الطمس لكلمته.
العدالة هي أساس كل سلام، وصاحب السيادة المطران سمير مظلوم يعرف هذا جيداً، والكنيسة المارونية بصفتها الكنسية وتطلعاتها الحديثة التي سكبتها في نصوص مجمعها التاريخي الأخير، مستعدة للدخول في معادلات جديدة، ترفع سقف الاحترام المتبادل بين أبنائها اللبنانيين كافة إلى ما هو أرفع بكثير مما أتى به الطائف. إن العدالة والسلام في الداخل اللبناني هما ركيزة كل نجاح في التعامل مع الخارج، سواء كان جارَ الدارِ، أم البعيدَ ــ القريب، أم المؤسسات الدولية. أما كيف نضمن، مع تحقيق عدالة قائمة على المواطنة عدم وقوع لبنان في أصوليات تحوّله إلى دولة صليبية أو دولة إسلامية، وهذا ليس الأسوأ في التخوّفات، إنما الأسوأ هو أن يتحوّل إلى شركة مساهمة، أو شركة قابضة، أو ساحة لكل فساد ومؤامرات للآخرين، فهذا يعود إلى العبقرية اللبنانية السابق ذكرها، وإن عجزنا عن التوصل إلى الحلول الناجعة فهذا يعني أننا بالفعل قُصّار ونحتاج إلى انتداب.
نعم إنه لمن العدل:
أ‌ ـ أن يستشار الشعب عند تقرير مصيره وأن يدلي بصوته في أجران الاستفتاءات، ولو تم شيء من هذا عام 1989، أو في الأعوام التي سبقته أو لحقته، لما اضطر الشعب اليوم لأن يدلي برأيه بقدميه الرافضتين أن تترك الأرض قبل استعادة ذاك الحق. وإنه من العدل أيضاً أن يشعر الشعب يوماً بأنه منتصر وبأن انتصاره حقق له مكاسب أكيدة.
ب‌ ـ أن يعاد النظر في نص وثيقة الطائف، وبالتالي في الدستور وكل المواثيق المعتمدة سراً وعلناً، ونرى من العبث أن تقام مؤتمرات فئوية من هنا ومن هناك، وندعو مع الداعين لأن يقام مؤتمر لبناني حواري ــ سينودس وطني واسع ــ يلتئم تحت سقف لبنان، تحت عنوان: أي لبنان نريد للألفية الثالثة، تفاصيل انعقاده ترد لاحقاً، يستند بشكل خاص على الاستفتاءات الشعبية، ويسعى إلى تأسيس سلام لبناني من لبنان، وللبنان، وللعالم ( Pax Libani).
ت‌ ـ تعديل ميثاق الاستقلال وإعطاء الحقّ ــ المكتسب أصلاً ــ لأيّ لبناني من أي طائفة من الطوائف الستّ الأكثر قدماً في لبنان، بتبوّؤ رئاسة من الرئاسات الستّ، شرط أن لا يتبوّأ شخصان من الطائفة نفسها سدتين رئاسيتين في الفترة نفسها. بالطبع، يبقى المحكّ الأهم هو حسن توزيع الصلاحيات على هذه السّدد كي يحُافَظ على التوازن في المشاركة وفصل السلطات مع تأمين مخارج دستورية سليمة لكل مأزق كالذي نعاني منه اليوم. ونحن قد وضعنا تصورنا لهذه الحلول في كتابنا «تحول المفاهيم في بناء الجمهورية... نحو جمهورية لبنان الخامسة».
إن الثوابت المارونية، بنظرنا، لم ولن يُقصد البتّة من خلالها تفصيل ثوب جديد، بل إصلاح الخروق التي تركها اتفاق الطائف عمداً والتي لاحظها الكثيرون، منذ اليوم الأول لصدوره بحثاً عن عدالة أفضل. لا نعتقد بأن موقف البطريركية متغافل عن ضرورة المشاركة العادلة هذه، وخصوصاً أنه قد ثبت لدى الجميع عمق وطنية كل لبناني، لأي فئة سياسية أو دينية انتمى، وبات الوقوف في المحاور الدّولية، تاييداً ليسار أو ليمين، هو ما يختلفون عليه، عملاً بوعيهم للسياسة الدولية، في عالم متصاغر ومتداخل حتى أعماق ضمائرهم. إننا، بالاستناد إلى أساس المواطنة هذا، قد لَفَتْنا إلى الثابتة «غير المكتوبة» والتي هي عدم تمسّك البطريركية بالرئاسة الأولى للموارنة، وإلا لكانت دافعَتْ عنها كما دافع رأس كل مذهب عن السّدة المدنيّة التي تمثّل مذهبه.
ولكن يبقى أن ما لا بد منه للتوصّل إلى اتفاق جديد حول الميثاق الوطني، ولو بشكل جزئي، هو وضع: «قانون جديد للانتخاب على أساس الدوائر الصغرى، بغية تأمين تمثيل صحيح لكل فئات الشعب، وعلى إفساح المجال لمشاركة المغتربين في الانتخاب» على ما أتى في البند الخامس من «الحلول الملحة». وما يأمله الشعب بأثره اليوم، سواء كان هذا القانون العصري العادل يقوم على الدوائر الصغرى أم النسبية أم الاثنين معا، كما ورد في الدراسة التي رفعتها للحكومة لجنة الأستاذ فؤاد بطرس، هو أن يرى هذا القانون النور وأن يصل نوره إلى اللبنانيين المنتشرين في أقطار العالم أجمع.
نتوقف، إذاً، عند الاستنتاجات التالية خدمة للبنان أولاً وآخراً، ونحن والحمد لله، لسنا من الأقل أهمية في الدفاع عن المارونية كنيسة وأمّة:
1ـ عدم الاستعجال بأي أمر يرتكز عليه مستقبل لبنان، إذ إن لبنان، اليوم، هو في طور ولادة قيصرية جديدة. لذلك نرى بأن نحتكم إلى المثل القائل: «في التأني السلامة وفي العجلة الندامة». يمكن لكل شيء أن ينتظر حتى المحكمة ذات الطابع الدولي.
2ـ دعوة يوجّهها الرؤساء الروحيون، متضامنين بالروح نفسها التي تضامنوا بها إبان الحرب الأخيرة على لبنان، إلى المؤتمر المذكور أعلاه تحت اسم «مائدة الحوار»، يصدر عنها تسمية حكومة انتقالية عملاً بالبند الخامس من «معالجة الأمور الملحّة»، ما يُسهّل عودة التئام مجلس النواب ليساهم مع المتحاورين في منح الثقة للحكومة وحلحلة ما ورد في الثابتة السابعة، وذلك من دون أي سقف سابق، إذ إن في نفوس الكثيرين ما ليس في النصوص. كما يعمل على تأسيس مجلس الشيوخ المنوي منه المساهمة في تقنية التمثيل الديني في دولة يحترم دستورها الأديان إعداداً لإلغاء الطائفية السياسية كلياً بعد أن يكون الشرق الأوسط قد بات قابلاً لهذا الحدث.
3ـ في الوقت نفسه تعمل اللجان النيابية مع الاختصاصيين على إصدار قانون الانتخاب العتيد على أن يتضمن أيضاً قواعد انتخاب مجلس الشيوخ والمجلس الاقتصادي الاجتماعي.
وخلال هذا الوقت يدخل الجميع في مهادنة من دون الحاجة إلى مواثيق جديدة لأن كافة ما حدث من إخلال بالذوق الاجتماعي والخطاب السياسي وإهانة الكرامات ليس من شيم شعبنا وكرامتنا الشرقية والإيمانية.
أما عن الفرق بين هذه المائدة وتلك الطاولة، وما الذي يؤكد حظوظها في النجاح وتجاوب الشعب المهموم بمطالبه الأساسية معها، فنقول: هناك فرق شاسع نستشفه من الثوابت كما مما نطرحه، ألا وهو أن هذه المائدة تضع نصب أعينها حقوق الإنسان وكرامة المواطنين. بينما تلك الطاولة كانت قد ارتكزت على حقوق المحاورين أنفسهم ومكتسباتهم السياسية والاقتصادية والعائلية ...الخ. هذه المائدة تعد الناس بأنها ستحترم كرامتهم وحقوق كل الطوائف بالتمثيل المتساوي والعادل في الجمهورية فتُشعِر النساء كافة، لا فقط المسيحيات، بالاطمئنان إلى المستقبل وبأنهن سينجبن أطفالاً متساوين في الحقوق والواجبات.
* رجل دين لبناني