رياض صوما *
لقد أزعج خطاب بوتين في مؤتمر ميونيخ الأخير، الإدارة الأميركية إلى حد كبير. فقد شكّل نقده اللاذع، لكن الموضوعي، لمخاطر السياسات الأميركية في العالم، فضحاً محرجاً لإدارة بوش، وخاصةً أنه يتقاطع مع رأي عام أميركي يوافق على رأي القيادة الروسية، وآراء قادة آخرين في العالم، إلى حد ما. وليست هي المرة الأولى التي ينتقد فيها بوتين أداء إدارة جورج بوش. فقد سبق له أن شبّه سلوك هذه الإدارة بسلوك الذئاب النهمة والمتوحشة. ولكن ما أزعجهم، ربما أكثر، ليس الكلام فقط، بل المبادرات الجريئة والناجحة التي أقدم عليها بوتين في السنتين الأخيرتين. فقد رفع مستوى التنسيق الاقتصادي والعسكري مع الصين الشعبية، ودعم كوريا الشمالية في وجه الضغوط الأميركية، وحال دون توسيع نطاق العقوبات عليها، ووقّع اتفاقات اقتصادية وعسكرية هامة مع الهند خلال زيارته إليها منذ أسابيع، واستأنف تصدير السلاح إلى سوريا وإيران، ولو ضمن السقف الدفاعي، وسعى لتخفيف وحصر العقوبات على إيران، ورفض الضغوط الغربية الهادفة لإيقاف تعاونه معها في المجال النووي السلمي. كما فضح نيّات الأميركيين وأتباعهم، بشأن المحكمة ذات الطابع الدولي، عندما طالب المحقق الدولي بكشف أسماء الدول العشر غير المتعاونة معه في التحقيق. وأخيراً وليس آخراً، جاء إلى المنطقة العربية للقيام بجولة ذات دلالات مميزة في هذه الفترة بالذات. وقد بدأها من المملكة العربية السعودية، التي تعتبرها واشنطن منطقة محرّمة على الحلفاء، فكيف على الأخصام؟
لا شك أن ما شجع بوتين على ذلك، رغبة العالم، وحتى حلفاء واشنطن، بالعودة إلى قدر من التوازن الدولي. فقد ضاق ذرعاً بصلافة إدارة بوش ومحافظيها الجدد، الذين وصل بهم الغرور قبل الفشل الذي لاقوه في مختلف أرجاء العالم، وخاصة في الشرق الأوسط الكبير، إلى حد الدعوة لإلغاء الأمم المتحدة. كما شجعه الاتجاه الذي عكسته الانتخابات الأميركية الأخيرة وازدياد قوة روسيا، بفعل تحسّن أداء الاقتصاد الروسي وارتفاع أسعار النفط.
لذا رفع وتيرة اعتراضه على التهوّر الأميركي المتواصل، رغم نصائح لجنة بيكر ــ هاملتون، ورغم عودة الأوروبيين الى التململ من الممارسات الأميركية. لذا لم يكن غريباً أن يعبّر وزير الدفاع الأميركي عن انزعاج واشنطن، بتحذير موسكو من العودة الى الحرب الباردة. ولكن من حق الشعب الأميركي، وقادة الرأي المستقلين في الولايات المتحدة والعالم، أن يسألوا السيد روبرت غيتس، وهو المدرك أكثر من غيره، على من تقع مسؤولية إعادة العالم الى ما هو أسوأ من مناخات الحرب الباردة؟ ألم تكن القيادة الروسية أول من أعلنت التضامن مع الشعب الأميركي، بعد الضربة التي تلقّاها في 11 أيلول 2001. وهل كان باستطاعة الجيش الأميركي غزو أفغانستان بتلك السهولة لولا فتح أجواء آسيا الوسطى أمام حركة الطيران الأميركي، ولولا تعاون قوات الشمال المقرّبة من موسكو؟ وهل روسيا هي التي أقدمت على «توسيع نطاق حلف وارصو» الى المكسيك وكندا، أم الولايات المتحدة التي دفعت حدود الحلف الأطلسي الى ليتوانيا وبولونيا ورومانيا وجورجيا وأذربيجان ،الخ ...؟ هل روسيا هي التي استأنفت مشاريع «حرب النجوم»، أم الولايات المتحدة هي التي أقدمت على استئناف سباق التسلح الصاروخي عبر مشروع المظلة الصاروخية المضادة للصواريخ التي تشمل، (باتريوت المعدل) و(ساد) وغيرها؟ هل روسيا هي من بادر الى حشد الأساطيل والقواعد العسكرية حول الولايات المتحدة التي تفعل ذلك بحجة لا تنطلي حتى على السذّج، وهي ذريعة «التصدي للإرهاب»؟ هل روسيا هي من أقدم على تنظيم وتمويل «الثورات الملونة»، وثورات الورد والزنبق والأرزّ، أم أن الولايات المتحدة هي من فعل ذلك؟ وأخيراً وليس آخراً، هل روسيا هي من يستعدّ لنشر دفاعات مضادة للصواريخ عند الحدود الأميركية أم الولايات المتحدة التي تتهيأ لنشر تلك الدفاعات عند الحدود الروسية الغربية؟ لقد أحسنت إيران وسوريا، بالاستناد الى الدعم الروسي لحماية حقوقهما الوطنية، وأحسنت العربية السعودية ببسط يدها الى اليد الروسية لتوسيع هامش استقلالها حيال المتطفل الأميركي، الذي يخترع لنا الأعداء من أجل تبرير حمايتنا منهم. لقد نجح سابقاً بابتزاز بعض أنظمة المنطقة، وخاصة في الخليج، عبر التهويل بالخطر السوفياتي، ثم بالخطر العراقي. وهو يحاول اليوم ابتزازها عبر التهويل بالخطر الإيراني. لقد كلفنا ذلك مئات المليارات، وشعوبنا جائعة. فعسى أن لا نلدغ من الجحر ذاته مرات ومرات. وكل ذلك يتوافق مع مصالحنا الوطنية والقومية والإقليمية. إنه يعزز قدرتنا على لجم النزعة العدوانية للأطلسيين ولإسرائيل، ويفسح في المجال لتوسيع هامش المناورة أمام القوى الحريصة على إيجاد حلول سليمة ومتوازنة وعادلة، لمشاكلنا في المنطقة وفي لبنان. ولعل الوقت لم يفت بعد، أمام الذين استعجلوا تطويب المنطقة للأميركيين، سواء في إدارة بوش، أو في أوساط حلفائهم هنا وهناك، بمن فيهم بعض «الأصدقاء السابقين» للاتحاد السوفياتي، لإعادة النظر بحساباتهم. فإذا كنا نقول للرئيس الروسي بوتين: أهلاً وسهلاً، فليس ذلك حنيناً الى العهد السوفياتي، أو حنيناً إلى الحرب الباردة كما يرى غيتس، ولا وهماً بقدرة شعوبنا على طرد الأميركيين غداً، بدعم روسي. بل لأننا نرى ضرورة للحدّ من هذا العبث الأميركي في شؤون منطقتنا، ونعتقد بقدرة روسيا على مساعدتنا بذلك، إذا توفرت الإرادة السياسية لدى قياداتنا، للوقوف بوجه مغامرات بوش وبلير وأولمرت الدموية. وهذا ما يجب العمل المتواصل لفرضه.
*عضو المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني