عمر كوش *
من الملاحظ تماماً أن الوضع في العراق، في أيامنا هذه، يشهد أكثر من حرب تدور رحاها على أرض الرافدين، فهنالك حرب التحالف الأميركي ــ البريطاني ضد مجموعات المقاومة المسلحة العراقية، وتقود هذه الحرب القوات الأميركية، على وجه الخصوص، المدعومة من طرف بعض فرق الجيش العراقي الجديد والشرطة العراقية، وهناك ما يمكن تسميته الحرب المذهبية غير المعلنة التي تشهدها بغداد ومناطق أخرى من الأراضي العراقية، وتقودها «فرق الموت» ومختلف الجماعات الإرهابية الأخرى، ويدخل ضمنها عمليات القتل اليومي المنظمة والعشوائية، التي تخلّف العديد من الجثث المعروفة والمجهولة الهوية، وعمليات التطهير الطائفي والتهجير الجماعي القسري وعمليات الخطف والتصفية وملاحقة الكوادر العلمية والتقنية والمهنية.
ويمكن القول إن إدارة الاحتلال الأميركي أرادت أن تكون الحرب الثانية ترجمة عملية للحرب الأولى، فجعلتها أكثر دموية، وأشعلتها بعدما باتت تواجه عمليات مقاومة منظمة ومدروسة، فكان عليها البحث عن وسائل أخرى تبعد الأنظار عن الحرب ضد المقاومة، وتمنع عموم العراقيين من الالتفاف حولها. وبدأ العالم يسمع أسماء مجهولة الهوية والعنوان بالتزامن مع عمليات إرهابية تتوزع بين تفجير وتفخيخ ونسف وقتل عشوائي، وطاولت الأحياء الشعبية والمراكز الدينية، ولم تستثنِ الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ.
وبدأت الفوضى تتفشى شيئاً فشيئاً، بالتزامن مع الصدى الذي أخذت تحدثه «نظرية الفوضى الخلاقة»، وازداد خوف الناس وهلعهم من موجة الثأر والانتقام التي اجتاحت مناطق واسعة من أرض العراق، واتسعت عمليات الرد على القتل بالقتل في مختلف المناطق والمدن والأحياء، وشهد العراق موجات نزوح جماعي واسعة، إذ وصل عدد الهاربين من الموت في العراق إلى سوريا وحدها ما يزيد على مليون ونصف مليون.
ويبدو أن تحالفاً سياسياً وعسكرياً قد عقد ما بين أمراء هاتين الحربين وقادتها، إذ هناك أكثر من دليل على المستويين السياسي والميداني يربط ما بين القوات الأميركية والميليشيات وفرق الجيش العراقي والشرطة العراقية التابعة للحكومة العراقية. ومع ذلك يريد الرئيس الأميركي جورج بوش إقحام العرب في الوحل العراقي، ويطالب بدور تضطلع به الدول العربية للوقوف في وجه النفوذ الإيراني، أي يريد أن يوسّع ويشرعن فتنة طائفية كبرى، وأن يجعل من إيران بلداً عدواً للعرب، بصرف النظر عما يُقال عن الدور الإيراني في العراق.
والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: ما الدور الذي ستضطلع به قوات الدول العربية في العراق؟ هل هو مؤازرة قوات الاحتلال الأميركي ضد الشعب العراقي أم تحجيم النفوذ الإيراني؟ وكيف؟
يبدو أن الدور الوحيد هو الوقوف في وجه النفوذ الإيراني، أي الدخول في الحرب الثانية، الحرب المذهبية، وجعلها حرباً مفتوحة، وبما ينقل الفشل من الطرف الأميركي إلى الطرف العربي، ويوفر بالتالي خروج الولايات المتحدة من ورطتها في العراق.
والأخطر من ذلك كله هو أن يفكر الرئيس جورج دبليو بوش بالورقة الطائفية، ويدعم ذلك ما يذهب إليه العديد من المهتمين بالشأن العراقي من أن الفتنة المذهبية باتت ورقة سياسية، تتعامل بها الإدارة الأميركية مع دول المشرق العربي أو ما يسمى منطقة «الشرق الأوسط»، على الرغم من نفي الرئيس جورج دبليو بوش علمه بوجود مثل هذه الورقة السياسية، وعلى الرغم كذلك من تصريحاته الأخيرة الزاعمة بأن إدارته لا تزال تتمسّك بوحدة العراق و«سيادته» و«استقلاله» وبحكومة وطنية تمثّل كل الأطياف والأطراف والطوائف، لأن مثل هذا الكلام يتنافى مع واقع الحال العراقي، ومع ممارسات الاحتلال الأميركي الهادفة إلى تفكيك الدولة العراقية، وتقويض الكيان الدولتي عبر تصفية القوى السياسية الحية، وتصفية الكوادر العلمية والتقنية والمهنية، إذ في كل يوم تُصفّى وتُقتل شخصيات عراقية من أكاديميين وأساتذة جامعات وأطباء وطيارين على مرأى من الاحتلال الأميركي، بل وموافقته. وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما أصاب العراق منذ الغزو الأميركي من دمار وخراب ندرك جيداً وجود نهج مدروس يهدف إلى تقويض العراق واستغلال الاختلاف الموجود لزرع الفتنة والانقسام.
ومنذ عشية غزو العراق لجأت الإدارة الأميركية إلى التعامل مع العراق وفق منطق تقسيمي ثلاثي، حيث قسّمت العراق إلى جنوب شيعي محايد أو غير رافض للغزو، ووسط سني رافض له، وشمال كردي مؤيد له، وأشاعت بعد الاحتلال مفهوم «تمكين الشيعة» وإيصال المؤيدين للاحتلال إلى الحكم، وسُوّقت مفردات «شيعي» و«سنّي»، ثم عربي وكردي وتركماني وآشوري.. إلخ، بالترافق مع أسلوب تمييزي بين الطوائف والفئات والأطراف. مع العلم أنه لا أحد ينكر وجود المفردات بحدّ ذاتها، لكن الاحتلال عمل على تثبيتها وتسويقها وتهويلها، وخلق علاقات متوترة بين مكونات المجتمع العراقي وصلت إلى حد الاقتتال الدموي والتصفية والفرز المذهبي.
وعلى العموم فإن ما نشهده في أيامنا هذه من محاولات إثارة فتنة كبرى جديدة في العراق قد وصل صداه إلى لبنان وإلى فلسطين وسواها، الأمر الذي يعدّ خير دليل على حجم وهول ما ينتظر شعوب منطقتنا.
غير أن الفتنة التي يراد لها اليوم أن تتسع، تشمل أبعاداً ومستويات عديدة، ولها ساحات واتجاهات متنوعة. وقد عزف الاحتلال الأميركي في العراق على وتر إعادة اكتشاف التركيبة الطائفية والمذهبية والعرقية والأقوامية والعشائرية فيه، ليبني عليها منهجية سياسية، جرى اعتمادها خلال سنوات الاحتلال الأربع. ثم نشر فكرة «المحاصصة» وتوزيع الحصص والنسب على المتعاونين معه من العراقيين، وتردد كلام كثير على استيراد «الصيغة اللبنانية»، بوصفها الوسيلة الواقعية، الناجعة والمرنة لحل معضلة التمييز بين المذاهب والطوائف.
وقد عملت جماعة «المحافظين الجدد» بعد احتلال العراق على عقد تحالف أميركي مع المتعاونين مع الاحتلال، بسمة طائفية، واعتبروه وسيلة تكتيكية، تنمّ عن إحدى لفتاتهم الذكية ذات المنظور الميكيافيلي. واعتقدوا أنه ما إن تتمكّن قوات الاحتلال الأميركية من القضاء نهائياً على المقاومة العراقية وفلول النظام السابق، فإنها ستنقلب على حلفائها من الطوائف الأخرى للخلاص منهم.
غير أن المؤسف هو امتداد الاحتقان الطائفي الذي وصل إلى حدّ الصراع في أكثر من بلد عربي، وهو مرشح، حسب العديد من المهتمين بالمنطقة العربية، لأن يمتد ويتسع إلى ما سمّاه هوبز: حرب الكل ضد الكل، إذ إن الوضع الخطير في العراق له امتدادات وتداخلات في العديد من دول الجوار.
* كاتب سوري