خليل أحمد خليل *
لا خلاف بين اللبنانيين على الدولة السيادية المستقلة والحرة، فهذا المبدأ السياسي، مبدأ السلطة: هو الإنجاز التاريخي الأهم بالنسبة إلى الأقوام (PEUPLADES) التي تشكل منها لبنان الحالي منذ عشرينيات القرن الماضي (1920)، إنما وقع الخلاف عليهم (الانتداب) وبينهم (الاستقلال عمّن: عن العروبة أم عن الغرب، ممثلاً آنذاك بالانتداب الفرنسي؟). فكانت دولة لبنان الكبير ثم «الجمهورية اللبنانية» (ذات دستور 1926) بمثابة دولة/حاجز، لا دولة سيادية، طالما أنها كانت «دويلة» ضمن الدولة الوصية. وهكذا، مدى ربع قرن (1918 - 1943) تكونت دولة (الحاجز اللبناني) على أساس أنها «دولة شراكة»، بحيث تعبّر في نظامها السياسي عن تركيبة المجتمع التعددي، وتحديداً عن القوى المتنوعة (POLYARCHIE) حيث لا تكون السلطة فيه لأحد من دون أحد. لكن هذه التركيبة التعددية كانت في آن، عامل دمج وتوحيد في الوطن، كما كانت عامل تفكيك وتفريط بسيادة الدولة.
المفيد هو أن هذه المرحلة «الفرنساوية» شهدت بناء مؤسسات لدولة، يفتقر مجتمعها الى الدمج الوطني، والى التكافؤ والمساواة بين العاصمة وأطرافها. وشهدت انقسامات نفسية ــ اجتماعية على مصدر الهوية: الطوائف (أو الدين) أم الدولة؟ من هنا جاء تسييس «الطوائف»، وتحوّل عبر الصراع المجتمعي على السلطة الى «تطييف» السياسة. وفي المقابل، حدث شرخ بين «المواطنين» الجدد، وخصوصاً بعد انكسار أول محاولة قومية عربية ــ على النطاق اللبناني-السوري ــ في معركة ميسلون/دمشق (1925)، وتجلّى ذلك الشرخ المستمر حتى يومنا، في التماهي بالمنتدب «الوصي» الأجنبي من جهة، وفي التآخي مع المحيط العربي للبلد، وقيام جماعات تكافل وتعاضد، تحت عنوان مقاومة الانتداب، بوصفه استعماراً.
المفيد أكثر هو أن دولة لبنان، الكبير والجمهوري، قامت في المجتمع الأهلي على مبدأ تلازم المواطنية وسيادة الوطن، وقامت في مؤسسات الدولة على سياسة استعمارية، موضوعها تقسيم المواطنين الى جماعات موالية للانتداب وأخرى معارضة له، بمعنى انتمائها الى بيئة عربية أوسع، ممانعة ومقاومة للمشروع الغربي، الفرنسي ــ البريطاني برمته، ولا سيما مشروع التوطين الصهيوني في فلسطين ذات الأكثرية العربية. الجماعات المعارضة في لبنان وسوريا وفلسطين قاومت الوصايات الخارجية والعمالات المحلية، على مدى المجال الوطني أو القومي للأمة العربية أو الإسلامية، المترسخة في المتخيل الشعبي، والمفتقدة في الواقع السياسي. في ظل هذا التعارض بين دولة الأمر الواقع ودولة الأمة المنشودة، عرف لبنان الحديث حركات مقاومة في معظم أرجائه، المتصلة بالداخل العربي السوري، ولا سيما في جبل عامل (حركات صادق حمزة، أدهم خنجر، مؤتمر وادي الحجير، حيث سيمنى العدوان الاسرائيلي بهزيمة دباباته في حرب تموز 2006) وفي البقاع وجبل لبنان (وخصوصاً الشوف، شكيب وهاب واغتيال فؤاد جنبلاط، مدير الشوف الأعلى). هذه الحركات الاستقلالية التي قاتلت الجيش الفرنسي في الشرق (المكون بأكثريته من مرتزقة محليين ومن الفرق الأجنبية ــ السنغال، الجزائر، المغرب، تونس، بلجيكا، إلخ.) وصفت بأنها «عصابات»، وهي في حقيقة ممارستها لهويتها القومية حركات تحرر وطني، أهملها مؤرخو المرحلة، أو تناولوها من زاوية التأريخ الاستعماري للمستعمرين. صفوة القول أن هذه المقاومة في لبنان وسوريا هي التي أسست لاستقلال الدولتين في بلدين توأمين عربياً وإقليمياً ومصيرياً. ففي هذه المرحلة (1918 ــ 1943) جرى تأسيس السيادة على مبدأ الاستقلال، وجرى تكوين الإرادة الوطنية اللبنانية، على الرغم من تطييف السياسة، وقيام الجيش الوطني اللبناني رمزاً للدفاع عن جغراسية الدولة ومجتمعها. وعليه، ليس صحيحاً ان استقلال لبنان في 22/11/1943، كان حصيلة التناقض البريطاني ــ الفرنسي وحسب، بل كان أيضاً وفي المقام الأول حصيلة نضال الوطنيين اللبنانيين والسوريين. فمن مجتمع المقاومة اللبنانية ذاك، خرج شعار «المحتل ما بيحتل»، بعد سقوط باريس تحت الاحتلال النازي، وتحتم واقع استقلال لبنان الجديد بمقاومته، عن محتلّيه، لا عن محيطه الحيوي العربي والإسلامي ــ لكن من دون قطع مع العالم الغربي.
ما بين 1943 و1967، جرى انتهاك سيادة الدولة اللبنانية مراراً، علناً وسراً، سواء بالتدخل العسكري المباشر (أحداث 1957، وتدخّل الأسطول الاميركي السادس، 1958) أو بالتدخل السياسي (مشروع أيزنهاور، حلف بغداد، تعيين الرؤساء بوصايات عربية وغربية، إلخ.). وفي كل حال كان الجامع المشترك بين التدخلين العسكري والسياسي في شؤون لبنان، هو التهديد الإسرائيلي ــ المستديم، والمتقاطع مع تبدل الوصايات على المنطقة، من الوصاية الأوروبية، الى الوصاية الأورو ــ أميركية، وحتى السوفياتية ــ الشيوعية. لكن، منذ 1967 وحتى 2007، صار لبنان، الدولة والمجتمع، في مهب «حروب إسرائيلية» وبات عليه أن يضحّي بنفسه لحفظ ذاته وضمان سيادته. بحروب على الأهل (1968 ــ 1976)، مهّد العدو «الاسرائيلي» لحربه المستديمة في لبنان، منذ 1978. على أن ما تجدر ملاحظته هو أن الإعلام السياسي الغربي (را: جان فرنسوا نودينو، 21 دولة عربية لأمة واحدة؟ تعريبنا، بيروت، منشورات بيسان، 1992) جعل من عام 1976 محطة لفقدان دولة لبنان سيادتها، باعتباره ان دخول قوات الردع العربية (ضمناً القوات العربية السورية المسلحة) هو بمثابة (احتلال) أو (عدوان). وفي الوقت نفسه، أهمل المحطات العدوانية الاسرائيلية، ولا سيما محطة 1978 (عملية جنوب الليطاني، واحتلال قسم كبير منه، وإقامة شريط حدودي عليه). لكن المميز الأبرز في هاتين المحطتين هو ان معظم اللبنانيين رأوا في الجيش العربي السوري حليفاً داعماً للمقاومة المتمادية منذ 1968 والمشتركة (عربية ــ لبنانية) ما بين 1978 و1982، ومن ضمنها مقاومة حركة أمل، ثم مقاومة حزب الله (1983 ــ 2007)، ورأوا في الجيش الاسرائيلي عدواً مشتركاً ودائماً.
المفيد هو ان لبنان لم يفقد سيادته، لنقص في قرارات مجلس الأمن الدولي، ولا لقلة تضامن عربي وحسب، بل فقدها أيضاً، وخصوصاً، بسبب انفجار دولته المركزية وتفجير جيشه الوطني المركب على صورة انقسامه المجتمعي وتكوينه التناقضي. وان المقاومة التي نشأت في ظروف الحروب «الاسرائيلية» على لبنان، ولدت من رحم مجتمع وطني، لا يساوم على هويته، ولا يقايض على حريته، ولا يراهن على «سيادة» تمنح له شكلياً ــ (فلبنان دولةً ذات سيادة لم يفقد موقعه في جامعة الدول العربية ولا في الأمم المتحدة، بل فقدها على أرضه عينها) ــ وتؤخذ منه، ومن مجتمعه المحتل من جهة، والمنكوب بحرب «أهلية» من جهة ثانية. بهذا المعنى، جاءت المقاومة، بكل تعابيرها الوطنية والعربية والاسلامية، عامل توحيد للهوية الوطنية، وعامل استرداد للأرض، في مرحلة كانت فيها «اللادولة» هي المشير الرئيس إلى فقدان السيادة اللبنانية، وتالياً خسران الاستقلال. من الافتئات إذاً على الدور العربي السوري، أن يُعزى إليه إفقاد لبنان «سيادته»، فيما الاحتلال «الاسرائيلي» وكل المتعاملين معه سراً وعلناً، هما المصدر الدائم للعدوان على السيادة اللبنانية. والجواب الحاسم نجده في الرد على الاحتلال وفي دحره.
* كاتب واستاذ جامعي