عصام نعمان *
آن أوان التخلي عن الأساليب التقليدية البالية في خوض المعارك الوطنية والسياسية، ومواجهة التحديات الخطيرة والتصدي لتحقيق الطموحات العظام. بين قادة المعارضة اثنان على الأقل ــ حسن نصر الله وميشـال عون ــ من معدن القادة الكبار، لا ينتميان إلى الطبقة السياسية التقليدية الفاسدة التي تحمكّت بلبنان بالتوارث والتقاسم والتواطؤ مع القوى الخارجية الطامعـة، فكان أن بقي على مرّ الزمن ساحةً للمصارعة وتصفية الحسابات، وسوقاً للعرض والطلب والنهب والاستلاب، وسبيلاً ومعبراً إلى الجوار للنيل من المتمردين على طاعة كبريات الدول ونوادر الأقطاب. لقد حان الوقت كي يستفيد الشعب والبلاد من مزايا هذين القائدين وقدراتهما في مخاض التغيير والإصلاح وإنجاب التسوية التاريخية. لقوى المعارضة وجود شعبي وطني كثيف في كل المناطق والمدن والأرياف. وللأساسيين من قادتها معرفة وخبرات وقدرات على التعبئة والضبط والربط وإدارة الانتشار وتفعيل الكوادر والأنصار. غير أن واقع القوى الحية، الجدّية والجادة، في صفوف المعارضة يشي بحقيقة مؤلمة، مفادها عدم وجود إطار جامع يحضنها ويحميها وينسّق فعالياتها. من هنا تنبع ضرورة استراتيجية عنوانها تنظيم مؤتمر وطني في مدى شهر أو شهرين تتنادى خلالهما قوى المعارضة جميعاً، ملتزمين ومستقلّين، من اجل التوافق على درس وصوغ برنامج مرحلي للإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بوجهيها الانتقالي والتأسيسي، وإلى وضع خطة عمل مفصّلة للمرحلة الانتقالية وما يليها، وأن يصار إلى إعلان البرنامج وبعض عناوين الخطة في اجتماع ختامي حاشد للمؤتمر الوطني قبل آخر نيسان المقبل.
يجب إيلاء وثيقة البرنامج المرحلي عناية بالغة، لتأتي، في مبناها ومعناها، مَعْلَماً بارزاً من معالم تطور لبنان الحضاري، وعنواناً ساطعاً لافتراقه عن زمن الطائفية والاستبداد والفساد، وولوجه عصر الديموقراطية والتنمية والتقدم والإبداع. من هنا تستبين الحاجة إلى تضمين الوثيقة مواقف متقدمة من قضايا بارزة على النحو الآتي:
• اعتبار الدولة المدنية الديموقراطية القادرة والعادلة جوهر التجربة الوطنية اللبنانية ورسالتها إلى العالم العربي والإسلامي.
• اعتبار التعددية خصوصيةً لبنانية عربية تغتني بالديموقراطية وتتغذى بالعروبة الحضارية وتحتمي بالحريات العامة وحقوق الإنسان.
• تجاوز الطائفية تدريجاً في الدولة والمجتمع من خلال خطط مرحلية تتناول ميادين السياسة والتربية والتعليم والثقافة وأنشطة المجتمع المدني، وسنّ قانون للحماية من التمييز الطائفي.
• حرية العقائد الدينية مكفولة امام القانون، وللجميع الحق في أن يعلنوا عن عقيدتهم الدينية، منفردين أو مجتمعين، وأن يمارسوا شعائرها بطريقة علنية شرط عدم الإخلال بالنظام العام.
• حياد الدولة بين المؤسسات الدينية.
• توزيع المقاعد في مجلس الشيوخ بالتساوي بين الطوائف الست الكبرى الإسلامية والمسيحية، وبين طوائف الأقليات الإسلامية والمسيحية تعزيزاً للوحدة والتوازن الوطنيين والمساواة أمام القانون.
• تعزيز اللامركزية الإدارية في ظل سلطة مركزية متوازنة.
• وضع قانون ديموقراطي عصري للأحزاب والجمعيات.
• اعتبار المقاومة قوة رادعة في خدمة استقلال لبنان وسيادته، والعمل على تكاملها مع الجيش اللبناني من خلال استراتيجيا للدفاع الوطني تكفل وحدة القيادة والعقيدة القتالية وحماية الشعب والأرض.
• دعم استقلال السلطة القضائية بتمكين القضاة من انتخاب غالبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى بصفته المرجع المختص بتعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتأديبهم وتحديد تخصصاتهم.
لعل منتصف شهر أيار المقبل هو التاريخ المناسب لبدء تنفيذ الخطة المتكاملة الانتقالية ذات الخطوات الخمس المبيّنة آنفاً. وهي خطة يجب أن تُترجِم، بطبيعة الحال، التوافق المفترض أن يكون قد تمّ بين الرئيس لحود وقيادة قوى المعارضة. فلحود شريك رئيس في بلورة الخطة وفي تنفيذ خطواتها تباعاً. ويبدو الشروع في تنفيذ الخطة في منتصف أيار مناسباً لأنه يتزامن مع انتهاء ولاية الرئيس شيراك، واقتراب رئيس الوزراء البريطـاني بلير من الموعد المرجّح للتخلي عن السلطة لنائبه غوردن براون، وانحدار الرئيس بوش عميقاً في مستنقع الحربين العراقية والأفغانية، وانهماك إيهود أولمرت وسواه من رؤساء الأحزاب الإسرائيلية بنتائج تقارير لجان التحقيق في هزيمة الجيش الإسرائيلي وأخطاء قادته في حربه العدوانية الأخيرة على لبنان.
إذْ تبدو إمكانات ردود فعل خارجية قاسية على الخطة التكاملية الانتقالية مستبعدة، فإن مزاياها الإيجابية يمكن أن تتجلى على النحو الآتي:
• نجاح قوى المعارضة في السيطرة على المشهد السياسي والمرافق العامة في محافظات الجنوب والبقاع وبيروت وأقضية زغرتا والكورة والبترون وجبيل وكسروان والمتن الشمالي وبعبدا، مع ممارسة حضور مؤثر في مدينة طرابلس وجزء كبير من قضاء عكار.
• سيطرة قوى المعارضة على الشرايين الاقتصادية الخمسة الأكثر أهميـة في البلاد وهي طريق بيروت ــ دمشق، وطريق بيروت ــ الحـدود السورية في الشمال، ومطار بيروت الدولي، ومرفأ بيروت، ومصرف لبنان المركزي، والتحكم تالياً في حركتها الاقتصادية والمالية.
• أرجحية بقاء الجيش وقوى الأمن الداخلي موحدة وقابلة للتعامل الإيجابي مع قوى المعارضة في المناطق الخاضعة لسيطرتها المدنية بسبب حضورها الشعبي والسياسي القوي في تلك المناطق.
• اضطرار الهيئات الاقتصادية عامة والتجار خاصة إلى التعامل مع قوى المعارضة تحت ضغط مصالحها الذاتية من جهة، واستتباب السيطرة لقوى المعارضة في مناطق حضورها السياسي والشعبي من جهة أخرى.
• ينجم عن العوامل الأربعة المارّ ذكرها نشوء ضغوط قوية متصاعدة على حكومة السنيورة وقوى 14 آذار المساندة لها قد تدفعها إلى التسليم بضرورة التوصل مع قوى المعارضة إلى مصالحة مشرّفة، تزول نتيجةً لها حكومتا 14 آذار والمعارضة، وتحلّ محلهما بالتوافق حكومة وحدة وطنية لتحقيق مهمات انتقالية محددة سبق ذكرها.
إن استمرار الوضع الراهن، المأزوم والمضطرب، يهدد البلاد والعباد بأخطار أمنية وسياسية، والاقتصاد بالانهيار، والوطن بالانقسام والتقسيم.
ما من شك في أن الصلح سيد الأحكام، وأن التوصل إلى تسوية سياسية مشرفة إنجاز تاريخي بكل المعايير. لكن العجز عن توليد إرادة الفعل والخلاص لا يعالج باستمرار الوضع الراهن ولا بقفزة في المجهول اسمها العصيان المدني، بل بمصارعة النظام الطائفي المركانتيلي الفاسد والتغلّب عليه. أجل، ليكن الإصلاح غالباً والنظام الفاسد مغلوباً، ولنجترح تسوية تاريخية تضع الشعب والبلاد على طريق الوحدة والديموقراطية والعدالة والتنمية والإبداع.
ثمة أدوار تبحث عن أبطال، وقد آن الأوان.
* وزير لبناني سابق