كميل حبيب *
هل نحن في لبنان على أبواب حرب إسرائيلية جديدة؟ وهل إسرائيل، الغارقة في تقويم نتائج حرب تموز 2006، على استعداد لخوض غمار حرب غير محسوبة النتائج؟ إننا نجيب بنعم كبيرة عن هذين التساؤلين. فعلى المستوى النظري، إن أفضل وسيلة لوضع سياسة خارجية فاعلة تكمن في أن تضع الدولة نفسها في موقع الخصم أو العدو، ومحاولة قراءة فعله أو ردّة فعله من منظاره الخاص. أما على المستوى العملي، فإن أية نظرة للمشهد السياسي اللبناني ولتاريخ دولة إسرائيل لا بد لها من أن تقدم الدليل الدامغ على حاجة اللبنانيين الملحّة للملمة أوضاعهم الداخلية استعداداً لمواجهة غزو صهيوني محتمل يرمي إلى تحقيق هدف استراتيجي كبير هذه المرة: القضاء على وجود لبنان الوطن والدولة. هذا يعني أن الآلة الحربية الصهيونية سوف تعمل على تقطيع أوصال الوطن عبر تفريغ الجنوب من أهله، تمهيداً لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، ثم تتوالى الانهيارات من خلال الإعلان عن إقامة إمارات مذهبية على أنقاض دولة ما برحت تتآكل نتيجة العبث السياسي الداخلي والتدخل الخارجي السافر.
إن المشهد السياسي اللبناني بانقساماته الحادة يشبه الى حد كبير، مع بعض الفوارق، ما كان عليه لبنان عشية الغزو الإسرائيلي له عام 1982. فإسرائيل لا يهمّها، لا من قريب ولا من بعيد، طبيعة الخلافات بين اللبنانيين بقدر ما يهمّها أن يبقى اللبنانيون مختلفين إلى حد تعريض وجود بلدهم للخطر. فإذا ما نظرنا إلى الصراع السياسي الدائر في لبنان نلحظ أن اللبنانيين متوافقون على مبدأ إقامة المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكل الجرائم الأخرى التي تلتها، مع بعض التحفّظات التي قدمتها المعارضة على مسودة المحكمة منعاً لتسييسها ولاستعمالها من قبل واشنطن للانقضاض على معارضي مشروعها الشرق أوسطي بعد وضعهم في دائرة الاتهام. واللبنانيون أيضاً متوافقون على أهمية تأليف حكومة وحدة وطنية. فالتوافقية، التي هي سمة للحكم في لبنان المستقل، لا تسمح لأية أكثرية نيابية باستبعاد أية فئة من الفئات المكوّنة للمجتمع اللبناني عن الحكم.
في رأينا أن المسألة التي يختلف عليها اللبنانيون تكمن في نظرتهم إلى التدخل الأجنبي، الفرنسي والأميركي بشكل خاص، في شؤونهم الداخلية. فمنذ أيام المتصرفية، التي كانت قائمة على التدخلات الخارجية، لم يلحظ اللبنانيون هذا الكم الهائل من الزيارات الدورية التي يقوم بها سفيرا واشنطن وباريس لمرجعياتهم الدينية والسياسية، وتصريحاتهما المتعلقة بالشأن السياسي اللبناني. صحيح أن لبنان الدولة ملتزم العمل على تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بقضاياه. لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن تعهد بعض الدول الكبرى الى إسرائيل تطبيق هذه القرارات بالوسائل العسكرية الذاتية التي تمتلكها. هذا ما حصل في حرب تموز 2006، حيث لا يوجد شك في أن تل أبيب أقدمت على تلك الحرب بإيعاز أميركي لضرب البنى التحتية للمقاومة الوطنية اللبنانية، وللقضاء على محور الممانعة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يسعى الى إقامة «ديموقراطيات» متصالحة مع الكيان الصهيوني، وإلا فإن تفتيت لبنان الى دويلات مذهبية يكون الخيار الأكثر احتمالاً.
بناءً على ما تقدم، فإن توافق اللبنانيين ومقاربتهم لمطالب المعارضة قد يكون سبباً دافعاً لإسرائيل بأن تتخذ قرار الحرب ضد لبنان. فليس في الضرورة بمكان أن يكون الـتوافق مرتبطاً بتسليم سلاح حزب الله الى الدولة اللبنانية. فهكذا قرار يبدو، على الأقل في المدى المنظور، متسرعاً طالما أن الأمم المتحدة لم تحسم مصير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا كأرض لبنانية محتلة حسبما ذكر قرار مجلس الأمن رقم 1701. ولقد ذكرت بعض المصادر أن ما أزعج الدوائر الإسرائيلية ودفعها باتجاه شنّ حرب تموز هـــــــــــو توافق الزعماء اللبنانيين في مؤتمر الحوار الوطني على مجرد بحث إمكان رسم استراتيجية للدفاع الوطني عــــــــــلى أساس تعزيز الانسجام بين منطقي الدولة والمقاومة.
وفي المقلب الآخر، فإن انقسام اللبنانيين في ما بينهم حول كيفية حكم لبنان وتكوين السلطة فيه بشكل لا يستثني أحداً قد يدفع بإسرائيل الى شن حرب جديدة ضد لبنان. فتل أبيب تدرك أن بعض الزعماء اللبنانيين يتفاعلون بشكل متهور مع المشروع الأميريكي الذي تبدو سماته واضحة في كل من العراق وفلسطين، ولن يشكل لبنان استثناءً في أدبيات ذلك المشروع. كما في حرب تموز، كذلك في الحرب الإسرائيلية المقبلة، يبقى سلاح حزب الله الذريعة المعلنة لتبرير تلك الحرب. ففي غزو عام 1982 كان السلاح الفلسطينى الدافع الإسرائيلي المعلن لتبرهن الأحداث لاحقاً أن الهدف الرئيسي وراء عملية «سلامة الجليل» كان إعادة تكوين السلطة بشكل يسمح لتلك السلطة بتوقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية. وإنه من المنطقي، وطبعاً من المنظور الإسرائيلي، أن تقوم تل أبيب بغزو لبنان مجدداً لتحقيق أحد الهدفين الآتيين:
1ـــ إما أن يتجه لبنان نحو التفتيت المذهبي، وهذا ممكن مع وجود أقليات محصورة جغرافياً.
2ـــ وإما أن يرى فريق من اللبنانيين في الدبابة الإسرائيلية رافعة لتحقيق أطماعه في حكم لبنان وجرّ البلد بشكل مبكر الى مخيم «المعتدلين العرب».
هذا في الشأن الداخلي اللبناني، أما الوضع الإقليمي فيبدو هو الآخر محفّزاً لإسرائيل على القيام بمغامرة عسكرية في العمق اللبناني. فدمشق تبدو محاصرة في أماكن متعددة. فهي محاصرة من خلال الاتهام السياسي لها من قبل بعض الساسة من قوى الرابع عشر من آذار بالوقوف وراء جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهي محاصرة أيضاً في غياب ارتباطها بأي معادلة «دفاع مشترك» مع دولة كبرى. ودمشق تعلم من خلال تجاربها السابقة أن معاهدة الصداقة التي وقّعتها مع الاتحاد السوفياتي عام 1980 لم توفر لجيشها المتواجد في لبنان أية مظلة دفاعية لحمايته إبان الغزو الإسرائيلي عام 1982. حتى عندما اعترضت دمشق على تلكؤ موسكو حينها تقديم الدعم العسكري للجيش السوري، جاء الجواب السوفياتي سريعاً: إن معاهدة الصداقة تلزم موسكو الدفاع عن سوريا إذا ما تعرضت لاعتداء، وليس الدفاع عن الجيش السوري المتواجد خارج الأراضي السورية.
ومع غياب الدعم الدولي، تبدو إيران، البعيدة جغرافياً، غير قادرة على مدّ يد المساعدة الى دمشق في مواجهة هجوم إسرائيلي محتمل. أضف إلى ذلك أن طهران ليست مستعدة ولا في وارد «التضحية» بترسانتها العسكرية ووضع صواريخها البعيدة المدى في تجربة عسكرية مبكرة. فهناك فرق شاسع بين استعمال الصواريخ في مناورة عسكرية وبين إطلاقها في حرب إقليمية تعرّضها لإحكام الحصار الدولي عليها. ونبقى في الإطار الإقليمي، لكن على المستوى الدبلوماسي، لنشير إلى أن تل أبيب قد اغتاظت من النجاح الذي حققته المملكة العربية السعودية في إحداث التوافق الفلسطينى عبر ما سمي اتفاق مكة. فذلك الاتفاق أنهى النزاع بين حركتي حماس وفتح، الأمر الذي سوف يؤدي الى ازدياد حدة المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وهذا التطور لا تستسيغه إسرائيل، وعينها لا تزال شاخصة على ما يجري في لبنان وإن نفت ذلك. أضف الى ذلك أن نجاح المبادرة السعودية في الشأن الفلسطينى قد ينسحب على لبنان بسبب ما للمملكة من علاقات وطيدة مع كافة الأفرقاء اللبنانيين.
الوضع الدولي يبدو هو الآخر مشجعاً لإسرائيل لشنّ حرب جديدة ضد لبنان، لا بل الاستعجال في شن تلك الحرب. أولاً: تبدو إدارة الرئيس جورج بوش غير معنية بتقرير لجنة بيكر ـــ هاملتون التي أوصت بالانسحاب التدريجي من العراق. وعلى العكس، لقد قرر الرئيس الأميركي زيادة عديد جيشه المحتل لأرض الرافدين. فالإدارة الأميركية تبدو أسيرة أهداف مستحيلة التحقيق بدأت بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل وانتهت بأكذوبة تحقيق الديموقراطية في بلد أصبح بكامله مقبرة جماعية. وعليه، فالإدارة الأميركية تبحث من خلال دعمها المطلق لإسرائيل فتح نافذة في لبنان للتعويض عن مأزقها العراقي. ومن يدري؟ فمع بقاء السيدة كوندوليزا رايس في منصبها، يحق للمراقب القول بأن فكرة ولادة الشرق الأوسط الجديد التي تعثرت في حرب تموز لا تزال تدغدغ مخيلتها.
العامل الدولي الثاني، الذي قد يدفع إسرائيل لاستعجال حربها على لبنان، يتعلق بما يجري داخلياً في كل من فرنسا وبريطانيا. فمع انتهاء ولايتي الرئيس جاك شيراك في نهاية نيسان، ورئيس الوزراء طوني بلير في حزيران المقبلين، تجد تل أبيب نفسها غير مستعدة للانتظار طويلاً حتى تتعرف إلى السياسات الخارجية للإدارتين الجديدتين في كلا البلدين. أضف الى ذلك أن القيادة الإسرائيلية تعلم أن شيراك وبلير لم يعودا صديقين للبنان، بل لفئة من اللبنانيين، تلك الفئة التي وجدت في المجتمع الدولي ضمانة لحقّها الدستوري في الحكم، آخذين بعين الاعتبار ما صرّح به أحد قادة الأكثرية حديثاً بأنه لا يؤيد زوال إسرائيل من الوجود. فهل يكون هذا التصريح مقدمةً لتلويح باستعداد البعض للتعاون مع الشيطان نكاية بالشقيق اللدود؟
على الطرف الآخر من التحليل، تبدو إسرائيل منشغلة بدراسة نتائج حرب تموز الماضية. فجيش إسرائيل لم يتمكن من تحقيق أيّ من الأهداف السياسية المعلنة لتلك الحرب. وبالتالي، ما يسمى إخفاقات عسكرية في إسرائيل يعتبر في لبنان هزيمة منكرة مني بها تسحال هناك. تلك الإخفاقات التي أجبرت رئيس الأركان دان حالوتس على الاستقالة، دفعت بخلفه غابي أشكنازي الى «التعهد بتطبيق عِبر حرب لبنان» وقد يعني أشكنازي بهذا التعهد العمل على الاعتماد أكثر على القوى البرية في الحرب المقبلة كبديل عن خطة حالوتس الذي اعتمد في خطته العسكرية على سلاح الجو من دون تحقيق نتيجة تذكر. أضف الى كل ذلك أن تل أبيب لا يمكنها أن تقبل، أو حتى أن تتعايش، مع أيّ نوع من أنواع الإخفاقات، حتى لو كان التوصيف السياسي لنتائج تلك الحرب يعني «نصف هزيمة» للجيش الإسرائيلي، مقابل «نصف انتصار» حققه حزب الله والمقاومة اللبنانية. وما تقرير صحيفة يديعوت أحرنوت من أن قوة حزب الله «تتعاظم بوتيرة مخيفة» إلا دعوة مبطّنة للجيش الإسرائيلي لأن يبني استراتيجيته المقبلة بشكل يضمن القضاء على قدرات الحزب وبنيته التحتية.
وفي المحصّلة، فإسرائيل تراهن على قدراتها العسكرية في احتلال الجنوب وتفريغه من أهله، كما تراهن على إمكان انشغال حزب الله واستنزاف جهوده في فتنة مذهبية في أزقة ببيروت. فإذا ما حصل ذلك، تنتظر تل أبيب عندها من بعض اللبنانيين الذين يشاركونها العداء لحزب الله من طرح شعار «إنقاذ بيروت» كتبرير لنزع سلاح الحزب. ويجب التذكير بأن شعار «إنقاذ بيروت» كان قد طرح في صيف عام 1982 لتشديد الضغط على منظمة التحرير الفلسطينية لسحب قواتها من المدينة، الأمر الذي لم يوفر الحماية لسكان مخيمي صبرا وشاتيلا الذين تعرضوا لأبشع مجزرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
لكن ما لا يدركه القادة الإسرائيليون، ولن يدركوه، يطال ثلاثة معطيات لا بد من الإشارة إليها ولو بشكل سريع:
1ـــ المعطى الأول هو أن حزب الله ليس منظمة التحرير الفلسطينية، ولبنان بالنسبة للحزب ليس ورقة تستعمل على طاولة المفاوضات. فالمكسب الوحيد الذي يطمح الى تحقيقه حزب الله هو تحرير ما بقي من أرضنا المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وتحصين الساحة الداخلية في وجه الأطماع الصهيونية.
2ـــ المعطى الثاني هو، تحديداً، وجود تأييد شعبي حام لظهر المقاومة في أية مغامرة عسكرية إسرائيلية قادمة. فالاحتضان الشعبي لحزب الله إبان حرب تموز الماضية أثار بالطبع غيظ القادة الإسرائيليين الذين لن يجدوا في حربهم المحتملة من يملك القرار لنثر الأرزّ على الجنود الصهاينة، كما حصل في بعض المناطق عام 1982.
3ـــ المعطى الثالث هو أن قدرة إيران على التحرك لن تكون مشلولة خلال الحرب. وإيران التي برهنت في الماضي أنها صاحبة نفوذ في الخليج تبدو مستعدة لاستعمال أوراقها السياسية لإراحة سوريا، حليفتها في المشرق العربي.
4 ـــ المعطى الأخير يكمن في أن القادة الصهاينة لا يقرأون نبوءاتهم. ففي قراءته لفشل دولته في غزوها للبنان عام 1982، أصرّ زئيف شيف على الاستعانة بنبوءة حبقوق (17:2) التي تقول للإسرائيليين إن مظالمكم في لبنان سترتد عليكم. ونحن من جهتنا، نضيف ما قاله سماحة السيد حسن نصر الله «إن لبنان عصيّ على الموت»، وإن «دماءنا سوف تهزم سيوف الأعداء.....بقوة الصبر والانضباط والدقة».
* عميد كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية