محمد نعمة *
ما لا يُشك فيه أن ثمة انقطاعاً تكوينياً حصل بين الدين وأسسه الروحية، وبين الطائفة إطاراً جمعياً ينحكم لهوية دينية. فالدين هو، ولنبقى في الإطار الإسلامي، قد تأسس أولاً على وحدة الربوبية، «... إذ قال لبنيه من تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون (...) وقالوا كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفاً (...) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (...) إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم...» (سورة البقرة، آيات 133، 135، 136، 163). وثانياً على وحدة البشرية ووحدة الإنسان، وهنا يمكننا أن نغرف من القرآن والأحاديث النبوية الكثير من البيِّنات على ذلك: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم..» (سورة الحجرات، آية 13)، أو في الحديث النبوي المشهور: «ليس منا من دعا إلى عصبية». وأخيراً في الدين هناك المدماك الأساسي والناظم لوجوده وهو تلك الرابطة الوثقى بين الخالق الكلي القدرة من جهة، وبين الإنسان بفردانيته العاجزة والواعية لعجزها من جهة أخرى، ففي الأصل قد «خلق الإنسان ضعيفاً» (سورة النساء، آية 28)، ولأنه «... خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً...» (سورة الروم، آية 54). الفردانية المؤمنة المتدينة هي الخاضعة المستسلمة (المسلمة) لمشيئة الله «الجبار». وبالتالي فإنّا إذا ألقينا نظرة بانورامية على أركان الإسلام الخمسة فسنجدها فردانية للوهلة الأولى وفي غايتها النهائية، ولو أنها على الإجمال تبدو كونية، أو جمعية.
إن عامل الربوبية لدى الطائفة والذي قد كان أساساً في تكوينها الأولي يفقد محوريته تماماً في تموقعها هنا ــ الآن. وبالتالي فإن العلاقة الشرطية، وبحسب «أصول الدين»، بين معتقد الطائفة الأصلي وتشكل الجماعة، تخبو فعاليتها، لا بل إنها قد تكون في ضمور واضح، هذا إذا لم نقل في كبح شديد، وخاصة عند الاحتكاك مع خارج طوائفي نشط.
الطائفة ليست ديناً ولو ادّعت ذلك، لأنها حبيسة مبدأ التمييز والتراتبية وخاضعة للزمان والمكان أو للجماعات وللأفراد. إن هذا المبدأ يفصلها كلياً عن الدين ثم إنه يسلّحها بجملة من الأحكام المسبقة عن الذات والآخر ضرورية هي لانشطار الوجود تراتبياً وفئوياً أو عنصرياً. الطائفة محكومة أيضاً لمبدأ التعميم، الأمر الذي قد سبق أن رفضه الدين رفضاً باتاً، بحيث أن الفرد يحيا أو يموت، من منظور طائفي، ووشمه الجمعي ملاصق له، فتنتزع منه كل إمكانياته واحتمالاته وفرادته التي تميزه عن الشبيه والمختلف. وبالتالي فإن الطائفة تبدو أمينة لقانون تحنيط العلاقات. بمعنى آخر، إن الطائفة تتلبّس الدين كمطية، ومن خلاله تُشرعن هاجسها الاقتحامي، وتشطر عالمها إلى فسطاطين بحيث أن الصفاء والعلو هو فسطاط الذات الطائفية، وأما الاسوداد والضعة فيسقطان على ذاك الفسطاط «الخارجي».
إلا أن الوثنية أو الجاهلية المتجددة التي تتوسل إسقاط دين الوحدة (للإنسان ومصيره) والتوحيد (الله الواحد الأحد) تروح تأخذ من الطائفة وسيلتها الفضلى، حصان طروادتها لكي تهزمه. لذا أمكننا ان نرى كيف ينكفئ المقدس ونصه لحساب أسطورة الطائفة، و«سفر تكوينها» وحكاية نشأتها وتطورها. مع الطائفة النص المقدس لا يكفي بذاته، نصٌ يعتريه النقص في «توفير الضمانات» لوحدة الجماعة وسيطرتها على دنياها، لذا من فاعلية أسطورتها أن تقدّم لأفرادها كل ما يلزم من الشحن النرجسي، وذلك من أجل التموضع الفعال تجاه الآخر، وبشكل يبقيهم خارج الشك، والتساؤل، والتقدير لمتطلبات وحاجات هذا الآخر. إن الشحنة العاطفية والانفعالية التي يحصل عليها الفرد من طائفته تكفيه ذاتياً إلى درجة القدرة على استلهام ومجاراة كلية القدرة الإلهية. إن الطائفة بأسطورتها عن ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، تعمل على تعزيز وتكثيف الشعور بالاقتدار، وبإبقائه وقّاداً لدى أفرادها. وفي الوقت نفسه تعمل على إعادة هيكلة الداخل الطائفي فرزاً وصقلاً وتجييشاً وبشكل دائم على نحو يتلاءم مع هذه الحاجة المفبركة للشعور بالاقتدار وبالتموضع في مواجهة الآخر.
إن العقل الطائفي لا يمكنه تقبل الشعور بالوهن، لأنه مدمن على الشعور بالعظمة والسطوة والاقتدار، بينما العقل الديني يخلد طبيعياً للشعور بالخضوع، والضِعة أمام الجبروت الإلهي. بينما الطائفي يبحث دائماً عن إشباعات حيثية ومباشرة، من خلال الذوبان في عصبية أمومية ارتدادية، وفي وهم الأمن الطائفي، يكتفي المؤمن المتديِّن برأفة «الجبار» ومشيئة «الحافظ». إن التوظيف المفرط للشعور بالأمن لدى الطائفة هو ضرورة حيوية من حيث كون هذا التوظيف يأتي أولاً كتشبُّث بمفاتن دنياها، وثانياً كتفلُّت من الواجب الديني بالاستسلام التام لكلية القدرة الإلهية، وثالثاً كانعكاس لوهم جبروت الجماعة وعظمتها. هنا يظهر التباس لاواعٍ في العقل الطائفي، يقوم على فَرَضية أن التماهي أو التقرّب قد حصل مع سمة الجبروت لا مع الله نفسه.
العقل الطائفي يمتاز بمديونية ضخمة تجاه الآخرين، ولو انه يقتات من إنكاره لها. إن بنيته النشوئية، والسردية، ومنطقه، وقصديته في دفاعاتها واجتياحاتها تأسست حصراً عبر التفاعل مع الآخر، فلو نظرنا إلى المشرق العربي فإننا لن نوَاجه بصعوبات كبيرة لكي نتأكد من انه لا يوجد هوية أو كينونة، أو كيان طائفي بمعزل عن لعبة الطوائف، وتفاعلها. إن أسطورة أو حكاية أو حيّز «جغراطائفي» أو لغة تواصلية فئوية، ما هو إلا الوجه الأصلي للعبة الطائفية عينها. ذلك انه خارج هذه اللعبة تبقى الطائفة غير قابلة للتشكل ولا للتحديد.
* المدير العام لمجلة مدارات غربية