أمين حطيط *
في تنظيرهم للدولة وسلطتها، اتجه الفلاسفة الذين اعتنوا بالفرد وحقوقه، الى تصور العقد الاجتماعي في صيغ متعددة، كان أهمها ما قال به روسو الذي اعتبر ان السلطة في الدولة الديموقراطية (أي حكم الشعب لنفسه) ليست إلا نتيجة إرادات الأفراد الذين دخلوا في العقد فكوّنوا الإرادة العامة التي تمارس من جانب فئة يختارها الشعب، فإن تعذر الإجماع على جهة ما لتمارس السلطة هذه عُمل برأي الأكثرية، إذ ان من صلب الديموقراطية خضوع الأقلية للأكثرية لينتظم عمل الدولة... فالسلطة في الدولة تُمارس إذاً ممن اختاره الشعب وأنابه عنه.. وتكون السلطة شرعية ما دام الشعب هو الذي اختار وأبدى قبوله بها للاستمرار. ويفترض ان تكون السلطة مستجيبة دائماً لنبض الشعب ما دامت منتدبة من جانبه للسير به في ما يحقق تطلعاته، ولكن لا يظهر الواقع دائماً كما هو المفروض في المبدأ، إذ ان كثيراً من الهيئات الحاكمة المنتخبة (ونتحدث هنا عن الأنظمة الديموقراطية) تستقل برأيها عن شعبها في بعض أو كثير من قراراتها وهنا يكون للشعب موقفه...
موقف يحمله صوت الإعلام والصحافة التي تمثل الرأي العام للفت النظر الى الخطأ أو الرغبة التي تبديها فئة أو فريق منه، وإن لم تصغ السلطة لهذا الصوت، قد يطور هذا الفريق من الشعب موقفه الى الاحتجاج والتعبير عن ذلك بالتظاهر لإسماع السلطة صوته، وإن لم تستجب يكون له ان يطور الاحتجاج الى التوقف عن العمل وهو ما يعبّر عنه بالإضراب الظرفي (لوقت محدد)، أو الإضراب المستمر وهو المسمى الاعتصام في مكان العمل أو الساحات العامة.. ويبلغ الرفض والاحتجاج السلمي ضد السلطة قمته عندما ترفضها الأكثرية الشعبية وتعلن إعراضها عن طاعتها وهو ما يسمى العصيان المدني... وهو السلوك الذي أطلق مصطلحه للمرة الأولى الكاتب الأميركي «ثوراو» عام 1849، حيث رأى ان الامتناع عن دفع الضرائب، احتجاجاً على العبودية والقمع والاضطهاد والحرب التي كانت تخوضها الولايات المتحدة الأميركية ضد المكسيك، أمر من شأنه إلزام السلطة بتغيير سلوكها ليلائم ما يريده الشعب حقيقة. ثم تطور مفهوم العصيان بعد ذلك الى ان وصل الى حد عدم طاعة السلطة في كل ما تأمر به وقد استقر مفهوم العصيان المدني اليوم على ما يلي:
ــ للشعب كل الحق في مراقبة السلطة التي أنتجها ليحكم نفسه بها... فإن انحرفت عما يريد كان له ان يقوّمها أو يرفضها ويأتي بغيرها.
ــ ان عملية تقويم السلطة تنطلق متدرجة من لفت النظر الى الاحتجاج ثم الرفض والعصيان، والحالة الأخيرة لا تكون إلا إذا كان الرافضون هم الأكثرية، فليس للأقلية ان ترفض حكم الأكثرية وإلا كان طعناً بالنظام الديموقراطي، وتمرداً.
ــ يبدي الشعب رفضه للسلطة بالسلبية تجاهها، وعدم الإنصات لها، من دون ان يتعدى ذلك الى استعمال أي نوع من أنواع العنف، وإلا انقلب العصيان المدني الى ثورة مسلحة تتغير أساليب معالجتها وفلسفة شرعيتها ومبرراتها.
أما الترجمة العملية للعصيان المدني، فتكون عادة في الأنظمة الديموقراطية (لأن الاستبدادية لا يُطرح فيها الموضوع أصلاً، وتُواجه مباشرة بالثورة) عبر ما يلي:
ــ الامتناع عن أداء الأموال الى السلطة (ضرائب ورسوم) لشل قدرتها على العمل.
ــ الامتناع عن ولوج المكاتب الرسمية، بكل أشكالها ووظائفها باستثناء المرافق التي تمس بعملها مباشرة حاجات الفرد المعيشية.
ــ امتناع الموظفين عن تنفيذ أوامر رؤسائهم مع ملازمتهم مكاتبهم وتنفيذ الملح من المعاملات التي لا يكون للسلطة منفعة من تنفيذها.
ــ إبلاغ السفارات الأجنبية والهيئات والمنظمات الدولية بحالة العصيان، ونزع الثقة من السلطة والطلب إليها وقف التعامل معها وإشعارها بأن السلطة التي ستشكل بعد تقويم الوضع لن تعترف بأي معاهدة أو اتفاق دولي يبرم مع هذه السلطة المرفوضة طاعتها.
ــ تجنب تشكيل السلطات البديلة لمنع تشرذم الدولة وانقسام الشعب.
ــ المحافظة على المرافق العامة وعدم المس بها، وإلا تحول العصيان المدني السلمي الى فوضى وأعمال عنف.
ان العصيان المدني الناجح هو الذي يؤدي الى محاصرة السلطة داخلياً بحيث ترى نفسها معزولة لا تملك إلا الألقاب الفارغة من أي مزية للحكم، وإسقاطها بنظر الخارج الذي سيتحمل وحده مسؤولية التعاطي معها.
في ضوء هذه المفاهيم يطرح السؤال في الحالة اللبنانية الراهنة: أين الشعب اللبناني اليوم؟ خاصة وأن الحكومة القائمة انقلبت الى حال اعتبرها فيها رئيس الجمهورية أنها غير موجودة بعدما سقطت شرعيتها الدستورية، ثم فقدت شرعيتها الميثاقية، وبعدما تقلصت شرعيتها الشعبية إذ رفضها الشعب في تظاهرة واحدة شارك فيها أكثر من نصف اللبنانيين المقيمين... وعلى رغم كل ذلك ما زالت مستمرة في مكابرتها تنظر الى شعبها بازدراء وخفة متغنيةً بدعم الخارج لها فأسقطت عن نفسها الصفات الاجتماعية الأخلاقية... وازداد الأمر سوءاً بعدما ذهب أحد المشاركين في السلطة اليوم وهو الأبرز فيها، الى الولايات المتحدة الأميركية يطلب عونها العسكري ليقمع فئة لبنانية تعارض السلطة القائمة، ويكون بهذا الطلب قد أكمل مواصفات الوضع الأول، ويذكّر اللبنانيين بما قام به أسلافه سابقاً عامي 1958، و1983، من استدعاء للقوات الأميركية والأجنبية لمواجهة الشعب اللبناني.
بهذا السقوط المتتابع والخروج عن المألوف وضعت حكومة الأمر الواقع القائمة في لبنان الشعب أمام حلين لا ثالث لهما:
ــ إما الخضوع لها كما تخضع البلدان المحتلة لسلطة المحتل الذي لا يقيم وزناً لإرادة الشعب، ما يجعل الوطن يشبه البلد المستعمر أو المحتل الخاضع لسلطة أجنبية لم تنبثق منه ولم يرتضها.... وهذا أمر قد يبدأ ولكنه لا يطول إذ يكون علاجه لاحقاً كما تنبئ سير التاريخ بالمقاومة التي تستعيد للشعب حقوقه في قراره وثرواته، مقاومة يلجأ فيها الى كل وسيلة تتاح كما فعل الفرنسيون مثلاً مع سلطة بيتان.
ــ وإما رفض الطاعة وعزل السلطة لإفساح المجال أمام إنتاج سلطة تكون صدى للإرادة الشعبية العامة على ما قال به فلاسفة القانون الذين نظّروا للديموقراطية، والذين يشترطون في إبداء الرفض هنا التزام السلوك اللاعنفي على ما تقدم ذكره.
ان لبنان اليوم في مأزق لا شك في تعقيداته، واننا لا ننكر ترابط مسألته مع مسائل أخرى في الشرق الأوسط، كما رسمت أميركا مسار الأحداث فيه.. ولكن مهما كانت درجة التعقيد والارتباط فإن وضعاً كهذا لا يمكن ان يستمر، وأمام السلطة الواقعية اليوم طريق من ثلاثة وقد بلغ السيل الزبى: إما حل وطني يعطى فيه كل ذي حق حقه، وإما انتظار ردة الفعل السلبية من المواطنين حيالها بعدما جربوا كل الوسائل الديموقراطية للاعتراض والاحتجاج ولم يبق منها سوى العصيان المدني، وإما يكون الأمر الأسوأ من ذلك على الجميع، وخاصة إذا استجابت أميركا لطلب التدخل العسكري المباشر أو شجعت حرباً أهلية تريدها مخرجاً للمأزق الذي وقعت هي وحلفاؤها فيه، وها هي كما يبدو بدأت تحضر وتستقبل زعماء الميليشيات اللبنانية ليوزع بوش المهمات عليهم مباشرة، فهل سيكون سباق بين العصيان السلمي والانفجار العسكري؟... أو هل يحكم العقل قبل الندم؟ نسأل الله الهداية للجميع...
* باحث استراتيجي