ياسين تملالي *
في ليلة 13 تموز الماضي، هاجمت مجموعةٌ مسلّحة من «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» مركزاً للشرطة في قرية ياكوران الجبلية، مستعملةً الرشاشات والقنابل اليدوية وقاذفات الصواريخ. وحسب شهادات القرويّين، فقد دام الاشتباك عدّة ساعات، ولم يُنجِ الدركيّين من الموت المحقّق سوى تدخّل مروحيّات الجيش.
وفاجأت ضراوة الهجوم المختصّين في المسائل الأمنية في الصحافة، وهم يهلّلون لاقتراب «ربع الساعة الأخير من حياة الإرهاب». إلّا أنّهم بدل مراجعة تحليلاتهم المتفائلة، آثروا التغنّي ببسالة الدركيّين في الدفاع عن موقعهم، مهنّئين أنفسهم بـ«إخفاق الإرهابيّين» الذريع. وبمنطق حالم، يحوّل الرغبات إلى حقائق ولا يخشى المفارقات، سارع بعضُهم إلى التأكيد أن هذه «الهجمة الفاشلة» دليلٌ آخر على أن «القاعدة في المغرب الإسلامي» دخلت آخر أطوار الاحتضار. وكان حديثهم هذا تكراراً مملّاً لتصريحات ثاقبة لوزير الداخلية، نور الدين زرهوني، وهو من رأى في تفجير مبنى رئاسة الحكومة في 14 نيسان 2007 وغيره من «التفجيرات الاستعراضية» «انتفاضات جسد متعب أدركه الهلاك».
ويبدو أنّ الجيش، عكس هؤلاء النبهاء، فهم المغزى الرمزي للهجوم على شرطة ياكوران، وهو تحدّي الخطط الأمنية الحكومية والبرهنة على هشاشتها، فأعلن عن عملية تمشيط واسعة النطاق للغابات المحيطة، بهدف القضاء على المسلّحين فيها قضاءً مبرماً. ووضع الإعلان عن العملية الصحافيّين مختصّي الشؤون الأمنية في حرج شديد، إذ كان ضربة قاصمة لكتاباتهم المهوّنة من سطوة «القاعدة» في المنطقة القبائلية. إلا أن هذا الحرج لم يبلغ من الشدّة مبلغاً يمنعهم من ترديد دعاية جهاز الأمن بحذافيرها، فشرعوا حال انطلاق التمشيط في وصف تهويلي لتعداد الإسلاميّين وعدّتهم، مسهبين في ذكر الوسائل المجنّدة لكسر شوكتهم: كتائب من القوّات الخاصّة والمظلّيين مجهّزة بكاميرات رقمية ووسائل الرؤية الليلية ومدفعية ثقيلة وهليكوبترات...
وبما أنه حُظّر على الصحافة متابعة ما يجري في الميدان من اشتباكات مع «فلول الإرهاب»، فقد تابع «الصحافيّون الأمنيّون» وقائع المعركة من مكاتبهم، ولم يذكروا مصدراً لمعلوماتهم سوى «مصادر عليمة» عديمة الاسم، لا يدري سوى العارفين بأسرار الوسط الإعلامي أنها خلايا اتصالات الأمن العسكري. أما من حاول منهم الاقتراب من محيط العملية، فحاور ضبّاطاً أشباحاً لا أثر لأسمائهم ولا لرتبهم. بل إنّ أحد هؤلاء الصحافيّين (من يومية «ليبرتي») اعتمد على مجرّد سمعه المرهف، ليستخلص من دوي القصف في ليلة العشرين من تموز أنّ المظلّيين وجّهوا الضربة القاضية للإرهابيين المحاصرين، وهو ما تبين في الصباح التالي عارياً من كل صحّة.
وهكذا طوال أسابيع، لم يمر يوم دون أن تتحف اليوميات قرّاءَها بآخر أخبار الجبهة: إرهابيون جرحى وقتلى، ومخابئ مدمّرة، ووثائق محجوزة، وأمراء أنهكهم التعب، مآلهم الاستسلام صاغرين. وكانت معظم المقالات تصبّ في مجرى واحد: الاندثار النهائي «للقاعدة» في الناحية القبائلية مسألة ساعات.
ثم ما لبث التمشيط أن نُسي نسياناً تاماً. نُسي المظلّيون البواسل والإسلاميّون الجبناء المختبئون في قلب الغابة ولم يُطرح السؤال: أين عشرات الإرهابيّين القتلى؟ أين الأسرى وأين السلاح المحجوز؟ وهل أدى القصف إلى نتائج ملموسة، أم أنّ نتيجته اليتيمة كانت إحراق ما بقي من غابات «أكفادو» الدهرية؟ أُغلق الملف بكلّ بساطة، كما لو أنّ الحكاية من أوّلها إلى آخرها كانت هذيان ليلة صيف.
وفي غياب أي تقويم لعمليات الجيش، قامت «القاعدة»، بطريقتها الخاصّة، بنشر حصيلة رمزية لها. ففي ليلة 13 تشرين الأوّل، قامت فلولها «المغلوبة المنهزمة» بمهاجمة مركز الدرك نفسه في ياكوران، مستخدمة الأسلحة نفسها من رشّاشات وقنابل يدوية وقاذفات صواريخ. ودام الاشتباك قرابة ساعة، وكالعادة، تلاه تمشيط لم يؤد إلى شيء سوى مقتل مدني خطأ عند حاجز عسكري.
كيف كانت تعليقات «الصحافيّين الأمنيّين» على هذا الهجوم الثاني؟ وصفته بأنه «إخفاق ثانٍ للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». أي نعم، كما لو كانت القاعدة جيشاً نظامياً هدفه دحر قوّات الأمن عن مواقعها والاستيلاء عليها. أحد هؤلاء الصحافيّين كتب قائلاً: «مرّة أخرى، حاول الإرهابيّون مهاجمة كتيبة ياكوران، إلّا أنّ الكتيبة كانت لهم بالمرصاد، وأجبرتهم على الانسحاب، لم يباغَت الدركيّون هذه المرّة. بالعكس، فهم من باغتوا المهاجمين بقوّة ردهم وسرعته».
لم يتساءل هذا الصحافي كيف أمكن للقاعدة بعد عملية متابعة استُعمِلت فيها القوّات الخاصّة والمدفعية والمروحيّات، أن تنقضّ على المركز نفسه بالطريقة نفسها وبالأسلحة نفسها. لم يتساءل عن صدقية الأخبار الرسمية عن الحركة الإسلامية المسلَّحة في المنطقة. لم يتساءل عن حقّ قرّاء جريدته «ليبرتي» في إعلام نزيه عن الحالة الأمنيّة، ولا عن حقّه كإعلامي في الحصول على أخبار موثّقة من مصادر علنيّة.
ولم تكن هذه أوّل مرّة يلعب فيها الكثير من الصحف دور البوق المردّد لدعاية النظام. فتعاملُها مع عملية ياكوران كان صدى لتعاملها مع العنف الإسلامي منذ اندلاع حريقه في أوائل التسعينيات. فمنذ 1992، لكَم قيل للجزائريّين إنّ يأس الجماعات الإرهابية وعزلتها هما التفسير الوحيد لتزايد ضراوتها، وإن «ربع الساعة الأخير» من حياة الإرهاب قد شارف على الانقضاء. وفي كلّ مرة، كان «ربع الساعة» يتحوّل إلى بداية كابوس يدوم أيّاماً بل سنين.
والمدهش في الأمر، أنّ الإجماع على هذه الطريقة اللاموضوعية في الحديث عن الوضع الأمني كثيراً ما يشمل الجرائد المناوئة للنظام، كما لو أنّ الإقرار بتردّي حالة الأمن يعني موالاة القاعدة أو مساندتَها. ويمكن القول إنّ السلطة نجحت أيّما نجاح في إيهام الإعلام المستقلّ بأنّ «الحلف المقدَّس» ضدّ العنف لا يعني فقط التنديد بجرائم الإسلاميّين، بل أيضاً السكوت عن تحوّل «الحرب على الإرهاب» إلى مسار روتيني يتأثّر بمتطلّبات دعاية السلطة الآنية أكثر من تأثّره بمتطلّبات حماية المواطنين
* صحافي جزائري