لطيفة بوسعدن *
توجد الآن في المغرب ترسانة قانونيّة كبيرة تستهدف إعادة الأخلاق إلى الحياة العامة، آخرها صدور قانون يفرض التصريح عن الممتلكات، وآخر يختص بمحاربة تبييض الأموال. كما صادقت الحكومة السابقة على الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد، ووعدت الحكومة الحالية في تصريحها أمام البرلمان بالعمل على دعم المنظومة الوطنية للنزاهة والأخلاقيات وإعادة تفعيل الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة...
لكن، هل يصلح العطّار ما أفسدته عقود طويلة من التسيّب والعبث بالمال العام وبثروات المغاربة؟ بمعنى آخر، هل تستطيع القوانين وحدها أن تحدّ من ظاهرة نهب المال العام؟ فصدور القوانين قد لا تواكبه الإرادة السياسية الحقيقية، ولنا في قانون التصريح بالممتلكات الصادر سنة 1992 مثال، فهذا الأخير ولد ميتاً. إذ لم يتم تفعيله رغم امتلائه بالثغر. وتبيّن في ما بعد أن الحكومة شرّعت هذا القانون فقط لامتصاص غضب المعارضة البرلمانية المطالبة آنذاك بضرورة سنّ قانون «من أين لك هذا؟».
يحاول القانون الجديد الصادر سنة 2007 أن يغطّي ثغراً سابقة، فنصّ على الجزاءات المترتّبة عن التملّص من التصريح بالنسبة للفئات المستهدفة به، وهي أساساً: البرلمانيون، رؤساء الجماعات المحلية والقروية والقضاة. كما أصبح التصريح يشمل أملاك الزوجة والأولاد. غير أن قوانين التصريح تختص بالمستقبل في حالة تفعيلها. ثم ماذا كان سيؤول إليه الأمر لو طرح سؤال «من أين لك هذا؟» على الجميع. فقانون التصريح الجديد الذي يفترض أن يدخل دائرة التطبيق، يستثني أعضاء الحكومة والمسؤولين العسكرين والأمنيين. واكتفى وزير العدل في ردّه على هذه الانتقادات بالقول بأنّ الوزراء والجيش ستؤطّرهم قوانين خاصة!
نهب المال العام استطاع، منذ استقلال المغرب، أن يفرز سلوكيّات مشينة، غدت بنية موازية لبنى الدولة، سلوكيات عكست ما أصبح يسمّيه مناهضو الفساد في المغرب «سنوات الرصاص الاقتصادي»، إحالة إلى سنوات الرصاص السياسي، وهي السنوات التي طُبعت بالعسف والاعتقال والاختطاف بسبب الاختلاف في الرأي. ورغم أن طيّ صفحة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، أو ما اصطلح عليه بالمصالحة مع الماضي المرفقة بالإنصاف، لم تنته بالكشف عن كل الحقائق، ولم يُفتح باب المساءلة في حق المسؤولين عن هذه الانتهاكات، فإنّ انخراط الدولة في هذه المصالحة السياسية عبّر عن رغبة الملك الجديد، إلى جانب المعارضة الحزبية التقليدية، بالعمل في اتجاه المستقبل. لكن السلطة هي ذاتها لم تعمل، بالحماسة نفسها، على فتح ملف الماضي الاقتصادي، من أجل الوقوف على الانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية التي ترتبت عن اختلاسات المال العام وتبذير الثروات الوطنية.
الواقع أن كل فصل بين السياسي والاقتصادي هو تعسف في وجه الحقائق الكاملة. فما كان للفساد الاقتصادي والمالي أن يتم، بل ويستمر، لو لم يجد التربة السياسية المساعدة له والضامنة لاستمراريته. فالناهبون هم المسؤولون الذين استغلوا نفوذهم السياسي والإداري والاقتصادي للاغتناء اللامشروع، وهم بشكل عام النخب المدلّلة للدولة المخزنية، رفعوا أجورهم إلى حد فاق حجم الميزانيات نفسها، ووظفوا سلطاتهم لعقد صفقات عمومية مشبوهة، وأخذوا قروضاً دون ضمانات بإعادتها، وجعلوا الميزانيات العامة قطاعات خاصة لإرضاء نزواتهم وإرضاء زبائنهم، وأخذوا امتيازات لم ينص عليها القانون...
نهب المال العام هو جريمة اقتصادية، والمال المنهوب هو عملية قهرية استهدفت فئات عريضة من الشعب، وبددت ثرواته، فكانت النتيجة اغتناء أقلية على حساب تفقير المجتمع وتعطيل نموه. وكما سبقت الإشارة فإن الدولة التي تعاملت خلال العقود السابقة بمنطق «دعه يمر...»، كانت تقوم أحياناً بحملات محدودة لمحاربة التلاعبات المالية. لكنها لا يمكنها أن تتوفر على إرادة التغيير وهي كانت الحاضنة وبامتياز لبنية النهب هذه، والراعية للأقلية التي استطاعت أن توجد شبكات ضاغطة باتجاه عرقلة العدالة وأجهزة الرقابة، فترتب عن ذلك حالة من التسيب والانفلات من العقاب، ما زالت مستمرة إلى اليوم.
قرر مغرب ما بعد عهد الحسن الثاني الخروج من هذه الممارسات على طريقته، لكن الأمر لم يتعدّ إصلاحات هنا وهناك، ومؤشرات تنم عن الرغبة في تحديث الدولة. لكن الممارسات المخزنية في هذا السياق يلزمها «انقلاب» يفوق مجرد الرغبة والقوانين، لأن معالجة الماضي تبدأ منه، ولا سيما إذا كان هذا الماضي لا يزال مستمراً، ولا يزال الناهبون القدامى والجدد يسيرون ضد إرادة مأسسة وتحديث الاقتصاد والدولة والمجتمع، انقلاب أيضاً على نوع من الثقافة السياسية التي غطت عقوداً طويلة من الممارسة السياسية والتي بنيت على منطق المكافآت والامتيازات والزبونية والمحسوبية...
وهذا يبدأ من استرجاع الأموال المنهوبة، والتي قدرتها الدولة نفسها بمليارات الدراهم، جزء منها هرب إلى خارج المغرب، علماً بأن تعقيد عملية التحقيقات في الماضي المستمر تثبت أنه لا يمكن إنجاز شيء بغياب قضاء مستقل.
توجد في المغرب اليوم تنظيمات مناهضة للفساد اجتمعت في إطار الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب، وبلورت مجموعة من المطالب، على رأسها تأسيس أخلاقية الحياة العامة واستعادة الأموال المنهوبة ومساءلة المختلسين. كما تحركت السلطة باتجاه تقديم بعض ملفات النهب الخاصة بمؤسسات عمومية أمام القضاء، ونطق هذا الأخير بأحكام تدين بعضها، وما زال يحقق في الأخرى، لكن الخوف كل الخوف أن يكون الأمر مجرد حملة من حملات المخزن تلك، التي جرت في الماضي بالطريقة نفسها، مع المحدودية في الزمن، ولم تؤد إلى معالجة المشكلة بل امتصت النقمة حيناً وأجهضت المطالبة أحياناً.
وتبقى العملية مسؤولية الجميع. فالأحزاب مثلاً، وخلال الحملات الانتخابية الأخيرة، ضمنت برامجها مبدأ أخلاقية الحياة العامة. والمفارقة أن هذه الأحزاب لم تنص في قوانينها الداخلية على مبدأ التصريح بالممتلكات في ما يخص أعضاءها، اللهم إذا استثنينا تجربة حزب اليسار الاشتراكي الموحد الذي بادر أعضاؤه المسؤولون إلى التصريح عن ممتلكاتهم، ونشرت اللائحة في الصحافة الوطنية، وعلى الموقع الإلكتروني للحزب...وبقيت هذه المبادرة يتيمة وسط حقل سياسي يضم أكثر من ثلاثين حزباً.
* صحافية مغربية