إيلي نجم *
لماذا تقدّم الغرب الأوروبّيّ والأميركيّ ولمّا يزل في المجال العسكريّ والحربيّ أي في مجال العدوان والقتل الجَماعيّ؟ أيعود هذا الأمر، كما يرى بعض العارفين، إلى تفوّقه في مجالات العلوم الصحيحة والتطبيقيّة، وبالتالي في مجالات التكنولوجيا والتصنيع، وبالأساس إلى تغليب العقل الفلسفيّ النقديّ على ذهنيّة التخريف والتهويم والاختلاق؟ أو يعود بالأحرى، كما يقول بعض المؤرّخين، إلى الذهب الذي غنمه الإسبان من القارّة الجديدة (ابتداءً من عام 1492م)، أو إلى «الأخلاقيّات البروتستانتيّة» الطهوريّة (ماكس فيبير : 1905)، أو إلى تفلّت العقل الحداثيّ الغربيّ من سلطان الدين أو بالأحرى من تسلّط رجال الدين، وبالتالي إلى تحرير البحث العلميّ من قبضة العقل الدينيّ اللاهوتيّ الأصوليّ (ابتداءً من عام 1620م)؟ أو يعود ذلك أيضاً، وفي الأساس، إلى ما أقامه الغرب من قِيَم وأنتجه من أدوات في مختلف مجالات الثقافة والحضارة، ومن ضمنها النظام الديموقراطيّ الذي «ينعم» به المواطن في الغرب، وقد تربّى في كنفه على مبادئ الحرّيّة والمسؤوليّة وخلافها بحيث تقيّد إلى حدٍّ ما بالقوانين التي سنّها أولئك الذين اصطفاهم وأولاهم أمره فأعطاهم، هو، الحقّ في التشريع، ولم يتركهم بعدها وشأنهم، بل انبرى يسائلهم ويحاسبهم على ما فعلوه له ويفعلون به ومن أجله؟ أيعني ذلك، في ما يعني، أنّ الغرب «المتحضّر» نجح في تطوير قدراته المذهلة على العدوان والقتل أكثر بكثير من أنظمة الطغيان والجور القائمة في عالَم اليوم؟
أيّاً كان الجواب عن هذه التساؤلات، لا شكّ أنّه كانت للغرب على العموم الغلبة في المجال العسكريّ والحربيّ، ابتداءً من اليونان مروراً بالرومان في العصور القديمة، وصولاً إلى الأميركيّين اليوم. وقد تمثّل هذا الأمر في أنّ الجيوش الغربيّة بعامّةٍ تقتل أكثر وتقتل «أفضل»، فتلحق بالعدوّ خسائر جسيمة وموجعة تفوق الخسارة التي تُمنى هي بها. ولعلّ ذلك يعود إلى تطوير قدراتها على القتل عن بعد، بحيث تستطيع هي ضرب تحصينات العدوّ ومنشآته وبناه التحتيّة من مسافة بعيدة، وتبقى خارج المجال الذي يستطيع فيه الوصول إليها والنيل منها انتقاماً.
وللتذكير، نشير إلى أنّ مفردة «الجيش» تدلّ على أنّ قوّة الجيوش عندنا تقوم في عديدها، فيما تدلّ المفردة الفرنسيّة (armée) أو المفردة الإنكليزيّة (army) التي تقابلها على أنّ قوّة هذه الجيوش عندهم تكمن في السلاح (arme أو arm) الذي تكون قد جُهِّزَت به.
وقد أوعزت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) إلى «وكالة المشاريع الخاصّة بالأبحاث الدفاعيّة المتقدّمة» (DARPA) بالمباشرة في تصوّر الترسانة الأميركيّة المقبلة (ابتداءً من عام 2010) والإعداد لها بهدف الوصول في أقلّ من ساعتين من الوقت إلى أهداف بعيدة في العالَم، وضربها انطلاقاً من القارّة الأميركيّة، ومن دون التماس الإذن باستخدام الأجواء الإقليميّة أو القواعد العسكريّة للدول التي تجاور البلد المستهدف.
في كتاب موثّق نُقِلَ حديثًا إلى الفرنسيّة تحت عنوان: «المذابح والثقافة، المعارك الكبرى التي صنعت الغرب»، استعرض المؤلِّف فيكتور دايفيس هانسون تسع معارك مفصليّة في تاريخ الغرب، ابتداءً بالمعركة التي وقعت في جزيرة سالامين الإغريقيّة في شهر أيلول (سبتمبر) عام 480 قبل المسيح، التي واجه فيها الإغريق الفرس وتغلّبوا عليهم، وصولاً إلى الهجوم التي شنّته القوّات الأميركيّة إبّان حرب فيتنام عام 1968 في اليوم الأوّل من بدء السنة القمريّة عند الفيتناميّين والمعروف بعيد «تيت».
أمّا فولفغانغ زوفزكي، فقد استعرض، في كتاب يحمل العنوان الآتي: «عصر الرعب، جنون قاتل وإرهاب وحرب»، صنوف الاضطهاد والإرهاب والغزو والمجازر التي ارتكبت سرّاً وعلانيةً في الأزمنة المعاصرة، ورأى أنّ تحويل الناس العاديّين والسويّين إلى قتلة ومجرمين وسفّاحين لا يقتضي كثيراً من الوقت والعناء!
ولعلّ أخطر ما يجري في الغرب اليوم هو المكافأة التي يقدّمها المحكوم إلى الحاكم الذي يشعل بؤر الحروب في العالم فيقتل الناس بالمئات والآلاف. وتتمثّل هذه المكافأة بتأييد هذا الحاكم بحجّة اضطلاعه بحماية الناس من عدوّ وهميّ هو في الواقع صنيعة أجهزة المخابرات التي تعمل في الخفاء بأمرٍ صريح من الحاكم عينه أو بإيحاء من الطغمة الماليّة أو الصناعيّة أو العسكريّة التي حملت هذا الحاكم إلى السلطة. وهو الأمر الذي يُبطل قدرة المحكوم على النقد والتمييز والمفاضلة والاختيار، وبالتالي على الانتخاب والمحاسبة. وههنا يكون الحاكم قد عملَ على تقويض أحد الأركان الأساسيّة التي تقوم عليها الفكرة الديموقراطيّة، ألا وهو حقّ المواطن في معرفة الحقيقة.
* كاتب لبناني