مصطفى بسيوني *
احتلت الحركة الطالبية في مصر مكانة مميزة في الحياة السياسية للبلاد. ويمكن اعتبارها قد شكلت لفترات طويلة، ترمومتراً حقيقياً للحالة السياسية. وقد برزت قيادات الحركة الطالبية خلال الأربعينيات من القرن الماضي، وأدّت دوراً مركزياً في حركة التحرر الوطني والمطالبة بالاستقلال. وفي زمن الاحتلال الإنجليزي، شهدت تظاهرات الطلبة صدامات عنيفة مع قوات الشرطة، سقط خلالها العديد من الشهداء من الطلاب، يحمل النصب التذكاري للجامعة ذكراهم. وبعد فترة من الهدوء خلال فترة الخمسينيات والستينيات، عادت الحركة الطالبية بقوة عقب حرب حزيران 1967 للمطالبة بتحديد أسباب الهزيمة ومحاسبة مسؤوليها، ثم للمطالبة بتحرير سيناء ورفض التسويات مع العدو الصهيوني. وشكل التحرك الطالبي في عامي 1971 و1972 كابوساً حقيقياً للسادات، بل يرى بعض المحللين أن الضغط الشديد الذي مثلته الحركة الطالبية من أجل تحرير سيناء كان أحد العوامل التي دفعت القيادة السياسية لاتخاذ قرار حرب أكتوبر 1973.
امتدت هذه الحال طوال السبعينيات مع تصاعد الغضب الطالبي من تقارب النظام السياسي مع الولايات المتحدة واتجاهه نحو التسوية المنفردة والتطبيع مع العدو الصهيوني. ثم شهدت الحركة الطالبية انفجارات متتالية كان أشهرها تظاهرات الطلاب في 1986، بعد اغتيال سليمان خاطر في سجنه، وهو جندي الحدود المصري الذي أطلق النار على مجموعة اسرائيلية تسللت الى مصر، وتصويره كانتحار. وبعد ذلك انفجرت تظاهرات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987. وعلى رغم تظاهرات طالبية ضخمة في 1991 احتجاجاً على عملية عاصفة الصحراء والدور المصري فيها، إلا أن عقد التسعينيات كان هادئاً نسبياً، الى أن كانت انتفاضة الأقصى التي تضامن معها الطلاب المصريون بحماسة. وهكذا أهم القضايا التي شغلت الحركة الطالبية منذ أربعينيات القرن الماضي هي قضايا التحرر الوطني، وعلى الأخص منها القضيةالفلسطينية. لقد شكل التحرك الطالبي رئة سياسية للمجتمع المصري، وذلك لعقود طويلة، في ظل أنظمة حكم متتالية وضعت قيوداً شديدة على العمل السياسي وطبقت قوانين الطوارئ. وغذّت الحركة الطالبية القوى السياسية المختلفة في مصر بالكوادر، فالعديد من القيادات الحالية لمختلف الاتجاهات السياسية هم نتاج الحركة الطالبية.
إلا أن تحولاً مهماً طرأ على الحركة الطالبية في الفترة الأخيرة. فللمرة الأولى، تظهر مصاريف الدراسة وتكلفة التعليم محوراً أساسياً ومحرّكاً في الجامعات المصرية. بدأ الأمر عندما رفع الطالب الحسيني أبو ضيف، من جامعة أسيوط، دعوى قضائية ضد الجامعة مستنداً الى قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لعام 1972 الذي ينص في مادته 199 على أن «التعليم مجاني لأبناء الجمهورية في مختلف المراحل الجامعية... ويؤدي جميع الطلاب الرسوم التي تحددها اللائحة التنفيذية مقابل الخدمات الطالبية المختلفة»، فطالب أبو ضيف الجامعة بالاكتفاء بتسديد المصاريف المقررة في القانون التي لا تتجاوز 12 جنيهاًَ، أي حوالى دولارين فقط، بينما تفرض الجامعة «تبرعات إجبارية» على الطلاب، تزيد على الرسوم القانونية بحوالى عشرة أضعاف. كسب أبو ضيف القضية فتحركت حملات في عدة جامعات مصرية تحت مسميات مختلفة، منها «عايز حقي» و«مقاومة». وقد تفاعلت قوى سياسية مختلفة مع الحملات التي شهدت إقبالاً من الطلاب في جامعات أسيوط وحلوان وعين شمس، ومن المنتظر أن تمتد لباقي الجامعات المصرية.
لا شك أن مجموعة من العوامل تتكاتف الآن لدفع الحركة الطالبية في اتجاه هذا التحول، أولها الارتفاع الشديد في تكاليف الحياة في مصر، ما يجعل قطاعات واسعة من السكان عاجزة عن تلبية احتياجاتها. فقد ارتفعت أيضاً ارتفاعاً هائلاً تكلفة التعليم عموماً لا رسوم التسجيل فقط. ويدخل في تكلفة التعليم أسعار الكتب الجامعية وأجور المواصلات والسكن الطالبي والملابس...
عامل آخر حفّز تحرك الطلاب في هذا الاتجاه هو تبلور حركة اجتماعية نشطة لم تستثنِ أي قطاع من السكان، من العمال والفلاحين وسكان العشوائيات الى صغار التجار والموظفين، بحيث أصبحت المطالبة بتحسين ظروف كل قطاع حالة شبه يومية. ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك في المناخ الفكري والنفسي لطلاب الجامعات. ولعل التوسع في التعليم الخاص الجامعي في مصر قد خلق فرزاً اجتماعياً وسط الجامعات كما مثّل استفزازاً طبقياً إضافياً. فحسب الإحصاءات الرسمية، يبلغ عدد الجامعات الحكومية 17 جامعة يقرب عدد الطلاب فيها من 2 مليون طالب، بينما عدد الجامعات الخاصة المنشأة وفقاً لقانون الجامعات الخاصة رقم 101 لعام 1992، هو عشر جامعات، بالإضافة إلى الجامعات الأميركية والألمانية والفرنسية الأقدم عهداً. أما عدد الطلاب في هذه الجامعات فحوالى 70 ألف طالب، ورسوم التسجيل فيها تراوح بين 7 آلاف و35 ألف جنيه، وهي أضعاف هذا المبلغ في الجامعات الثلاث القديمة. وتعاني الجامعات الحكومية تدهوراً شديداً في الخدمات التعليمية، سواء في ما يخص حالة المختبرات أو قاعات المحاضرات التي تشهد تكدساً شديداً، بالإضافة الى أنها لا تضمن فرص عمل مؤكدة عند التخرج، ولا سيما بعد تخلي الدولة عن دورها في تعيين الخريجين من ناحية، وضعف المهارات التي يُكسبها التعليم الحكومي للطالب، إذ يخلو من مادة اللغات والتكنولوجيا الحديثة، إلا إذا كانت محل تخصص الدراسة، علماً أن طالب التعليم الحكومي يمر بعملية انتقاء قاسية وفق معدلاته في شهادة التعليم الثانوي ومقاييس أخرى، وهي العملية التي يتولاها مكتب التنسيق الجامعي.
تبدو اليوم المطالبة بخفض أكلاف التعليم وتنظيم حملات من أجلها أكثر قدرة على تعبئة الطلاب من المطالب الوطنية العامة على أهميتها. ولذلك هناك عدة أسباب، منها أن هذه المطالب الخاصة قد تؤدي الى نتائج مباشرة يشعر بها جميع الطلاب، ثم إن مسائل تهمّ كل طالب بالجامعة لا المسيس فقط أو نشطاء الحركة الطالبية. وأحد الأمور المهمة في التحول الحاصل في الحركة الطالبية هو أن المطالبة بخفض المصروفات الدراسية أمر لا يرفع من أسهم اتجاه سياسي بعينه، مثلما هي المطالب السياسية التي يمكن تصنيف الفصائل بحسب درجة الاهتمام بها وطريقته. إن التحركات الحالية أقرب الى الحركة النقابية التي تجمع أصحاب المصلحة المشتركة بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وفي الوقت نفسه لا تستبعد النشطاء السياسيين، ولكن تدفعهم للارتباط بجمهور أوسع.
ويبقى ظهور مطالب اجتماعية خاصة بالمصاريف الدراسية والخدمات التعليمية والحقوق الاجتماعية للطلاب مؤشراً قوياً إلى ما وصلت إليه الأوضاع الاجتماعية في مصر. فعلى مدى عقود، ظل الطلاب فئة خاصة قليلة التأثر بالتقلبات الاقتصادية والاجتماعية، إذ كانت الخدمات التعليمية مضمونة للجميع، بغض النظر عن المستوى الاجتماعي. أما اليوم فقد أصبح الطلاب، بصفتهم تلك، يعانون ما يعانيه آباؤهم في العمل والسكن. وكما تحرك الطلاب المصريون لدعم القضية الفلسطينية، يبدأون الآن بالتحرك لدعم آبائهم ضد ارتفاع تكلفة الحياة، وتبدأ الحركة الطالبية في حجز مكان لها في صفوف النضال الاجتماعي في مصر.
* صحافي مصري