طوني عبد النور (أستاذ في الجامعة اللبنانية)تسود مجتمعات الدول النامية صراعات حادّة مختلفة تكاد تطيحها ودساتيرها، جراء التباينات في المواقف السياسية، وشحّة النضج الوطني. وهذا يعود لغياب ميثاق وطني ومدني يجمع ويوحّد أبناء الوطن، ممّا يدعهم ألعوبة بين أيدي بعض الزعامات... فعوض أن نجد الوطنية تتغلب على الطائفية والزعامات، نرى أن العكس يحصل، مما يعرض وطننا لمخاطر جمة تهدد كيانه، وكأنه قدّر لنا أن نبقى مصلوبين تارة بالأحقاد والارتهانات الخارجية، وطوراً بالعمالة سعياً وراء المال والسلطة، فيما دور رجال الدين والساسة المسؤولين يكاد يكون دون أي تأثير. هل نحن ندخل وطننا في حلقة التدمير الذاتي بلا وعي منا؟ أم ننهض مجدداً من غفوتنا لنستيقظ ونأخذ العبر من الماضي؟!
إنّ تدني الوعي الوطني، هو علة العلل، لغياب تربية وطنية ومدنية تتفوق على التربية السياسية المذهبية البعيدة كل البعد عن أصول الدين... وهذا ما يجعل التوافق بين اللبنانيين شبه مستحيل. لكن إذا نما الشعور الوطني وتغلّبت المصلحة العليا على المصالح الأخرى، بمعزل عن القرارات الدولية، فإن التوافق يصبح ممكناً إذا ارتكز على جمع مختلف الآراء المتباينة بغية إحلال التوازن فيما بينها. ساعتئذ يمكننا الحديث عن توافق ما، يؤهلنا للخلاص من الحالة المتردية التي نتخبط بها. فالتوافق ما لم يشيّد على التوازن بين وجهات النظر المختلفة، فعبثاً نحاول.
لو تأملنا الطبيعة لوجدنا أن نظامها قائم على التوافق. فصولها أربعة، اتجاهاتها أربعة، قواها أربع، في انعكاس لقاعدة الهرم المربعة، حيث أوتار المربع الداخلية متساوية متوازنة تلتقي في مركزه، نقطة توازنه. فلو اختلّت زاوية من زوايا هذا المربع لفقد توازنه وانعدم التوافق بين أوتاره السّدى واللحمة. كأن الانجذاب والنفور أساس الوجود شرط أن يحققا توازناً توافقياً.
إن العناد واتهام الآخر بالجنوح الذهني، سلبية فكرية تقوّض دعائم التوافق، وتزعزع أسسه، مما يضعضع الثقة بين المتحاورين، ويقلّل فرص إيجاد الحلول. إذ إننا حتى اليوم لم نبن وطناً، بل وطننا قائم على تأمين المصالح الخارجية. فلو كنا حقاً وطنيين نريد الخلاص لوطننا، لكُنّا قمنا بأقل واجباتنا، التوافق ثم التوافق كي لا ندخل بلدنا في صراعات داخلية تخدم فقط أعداءه الكثر. كتاب «محاضرات في الإيزوتيريك الجزء الرابع» (منشورات أصدقاء المعرفة البيضاء، بيروت) أشار الى أن الانظمة الحالية ستجتمع، لتتفاعل (كما تتفاعل العناصر الكيميائية)، ومن ثم لتتحول الى عناصر جديدة (مختلفة عن العناصر القديمة) ولتكوّن مادة واحدة جديدة من ضمن العناصر القديمة أيضاً». فلمَ لا نكون نحن هذه المادة الجديدة التي يجب صنعها في وطننا عبر التوافق فيما بيننا؟!