نسيم ضاهـر *
استحوذ الاستحقاق الرئاسي في لبنان على اهتمامات العواصم العالمية وانهماكات إداراتها ودوائرها الخارجية والاستخبارية بلا تحفُّظ. وتسابق الموفدون إلى بيروت، يراجعون الحسابات والسيناريوهات المحتَملة، عين على الدستور والتوافق الصعب، وعين على الحدود والقوّات الدولية العاملة في الجنوب.
في خضمّ تشابك أسباب الاهتمام الإقليمي والدولي بالشأن اللبناني الصادق منها والغرضي، الظاهر والمموّه والخفي، تبدو الصورة ضبابية لاختلاف الدوافع وتنوّع المبعوثين تبعاً لانخراط مجموعة واسعة من الأمم في لعبة حلّ اللغز، تخطّت دائرة المعمول به سابقاً، المقتصر تقليدياً على الدول الكبرى وتلك النافذة في المحيط الجغرافي، إلى أقاصي الأرض من أميركا الجنوبية إلى شرق آسيا.
وفق هذه الفسيفساء الأممية، أضافت الأمانة العامة لمجلس الأمن الدولي حبّة كرز إلى الحلوى، كما يقول الطّهاة، وأدلت بدلوها وأفاضت حضوراً واتصالات هاتفية شبه يومية، ونصائح. باختصار شديد، انقلبت الآية المعهودة، على مبنى ردّ الجميل والواجب، حيث قلّما فوَّتَ لبنان مسألة صراعية إلا كان لشعبه موقف من مادّتها، وانقسام من حولها فبدا كأنما له قرص في كلّ عرس.
قد يحظى هذا السرد ببعض المشروعية والمقبولية للوهلة الأولى، نتيجة الوقائع المسجّلة على مدى عقود، وحماسة اللبنانيّين عامّة مع القضايا المعاصرة ومواكبتهم للأحداث والنزاعات بشغف بشكل لطالما هزّ بُنيانهم دون أن يهتزّ العالم. فما وفد عنوان عربي أو دولي أو عبر الربوع اللبنانية مرور الكرام، لأنّ العدوى أعادت تظهيره غالباً، وجعلته من فروض الداخل وبنداً على جدول أعماله. بيد أنّ الحرب الباردة مضت، والأيديولوجيات تراجعت، والمشاحنات العربية المزمنة انطوت، والحياة الحزبية اندثرت إلى حدّ بعيد، مغيّبة معها حواصلها وتداعياتها، فلم تضعف شكيمة اللبنانيّين من التنازع والتباعد، ولم تنلْ من همّتهم وحميتهم واستعدادهم للخصام، وقدرتهم على استحضار البدائل للقعود في أزمات مديدة.
أنهى اتفاق الطائف الجدال على الهوية، وأسدل الستار على حقبة طويلة حفلت بالأسئلة والاجتهادات والابتكارات اللغوية. آنذاك، خُيِّلَ للمرء أنّ المجتمع اللبناني قد نفض غباره واستأصل الفيروسات القاتلة من خلاياه، وأنّ المصالحة الشاملة التاريخية باتت في المتناول، على درب الإنجاز. فبعد عقود من التكاذب الراقي والسفسطة السياسية، خرج لبنان من المطهر القومي مرفوع الرأس، محفوظ الجناح، وجاهر بالمكتوم منعاً
للالتباس، وتبديداً للهواجس المتأصّلة.
هكذا، حسم عدّة محدّدات دفعة واحدة، واستقرّ على بيان وإيمان بالانتماء العربي والموقع المشرقي، والتموضع الكياني الدولتي، بميثاق دستوري صريح، اختصر وطمأن وعرَّف عن المناصب والصلاحيات.
تمكّنت المعجزة اللبنانية من إضفاء عنصر الرسالة على الوطن الصغير، بتأييد مكوِّناته الخارجة من محنة دامية مسمّاها الحرب الأهلية. وإلى غير رجعة، ذهبت مقولات فئوية جرجرها الانتداب والاستقلال الممنوح، على شاكِلة الوجه العربي والكيان القطري المؤقَّت، والحياء من التواصل علانية مع كافّة أطراف المحيط العربي، والمفاضلة المرّة بين شرق وغرب.
بهذا طويَت صفحة التجوال على تخوم العروبة والسيادة والمواطنة، والهروب بين شعاب العرب العاربة والعرب الضاربة والعرب المستعربة، وإسباغ المزايا على منهج هذا وسلخها عن مسلك ذاك. لكن، ما ظُـنَّ أنّه خاتمة للملفّات الشائكة ذات الطابع الوجودي المتصلة بمخاض التاريخ، وأُريد منه محاصرة وتصفية الإشكاليات الموروثة، استخلف امتيازاً في كنف الوصاية السورية، حصيلة وكالة أميركية مُبطّنة وقبول اسرائيلي ضمني رسم خيوطاً حمراء للانتشار العسكري الشقيق، حدودها مجرى نهر الليطاني جنوباً.
على هذا الوجه، تحوّلت دمشق من بوّابة لبنان العربية إلى محطّة قطار العروبة الوحيدة ومحجّ «الوطنيّين»، وسهّل صمت السلاح على الجبهة السورية ـــــ الاسرائيلية والالتزام باتفاقية فصل القوّات، توجّه العمل المقاوم نحو الجهادية حصراً ومرجعية الثورة الاسلامية في إيران، كذلك وفَّر لحزب الله حرية الحركة والإمداد بالعون والسلاح.
قامت الهندسة المشترَكة بين الحليفين السوري والإيراني على قاعدة المصالح، وخوَّلت سوريا استثمار ازدواجية بائِنة تحرِّك مسار التفاوض مع إسرائيل وتضبطه على وقع العمليات العسكرية الجارية بالوكالة عبر المقاومة في جنوب لبنان. في الموازاة، لُقِّح الخطاب القومي تباعاً بما يُوائم بين التحرّري والديني، ويؤمن الغطاء المناسب للمنظومة الممانعة ذات المشارب الفكرية والعقائديّة المُتباينة أساساً. جرّاء هذه التحولات دخلت المعادلة اللبنانية في طور المراجعة وإعادة صوغ التوازنات وقياس الأحجام، وهو ما أفسد تطبيق اتفاق الطائف ووضع جميع بنوده قيد التنفيذ، وحرف التسوية الناشئة في اتجاه التغليب والغلبة لفرض أمر واقع جديد.
غنيّ عن البيان أنّ المقاومة، التي آلت رايتها إلى حزب الله بغلاف إسلامي، مذهبي واقعاً بديلاً عن صيغتها الوطنية الأصلية، قد أنجزت مهمّات بالغة الأثر، بكفاية وحُسن تنظيم وأداء، واكتسبت مكانة أقرَّ بها العدو والصديق.
غير أنّ تضحياتها وتفانيها المشهود، على تعزيزها هيبة حزب الله ودوره، مهَّدت لإجلاس لبنان في دوّامة مصادرة قراره السيادي، وإنكار المساواة مع سائر المكوِّنات العضوية، وتخطِّي الخطوط الداخلية الناجِمة عن بُنية اجتماعية معقَّدة.
لقد سجّلت مرحلة ما بعد التحرير عام 2000، نزعة ظاهرة نحو التفرّد في القراءة الاستراتيجية والاستعلاء في العلاقة والممارسة، وربما الاستقواء بالسلاح على معنى الحيازة الموضوعية الفئوية والعهدة الموكولة حصريّاً، وما يستتبع ذلك من رموزية وترميز، أيقظتها حرب إسرائيل العدوانية عام 2006 والاجتهادات التي بُنيتْ حول حتميتها ومسارها، والمبالغة في أحكامها على الشركاء في الوطن، موالاة ومعارضة. مذ ذاك فُتح باب أزمة بالغة الوطء والمُراهنات على مصراعيه، وجرى تكبيل السياسة والإدارة والحياة الاقتصادية بالأصفاد وإغراقها بالأثقال.
تصاعد الخلاف وفق التسلسل الزمني، من انتقاد التسرّع الحكومي في وضع المحكمة الدولية على جدول الأعمال، إلى توكيد غياب المشاركة الفعلية في صناعة القرار، وصولاً إلى مطلب إطاحة الحكومة وإعادة تكوين السلطة، واتهام الأكثرية بالنكول الميثاقي والتبعية للأجنبي لدرجة الاستسلام والخيانة. ولئن استحقّ دستورياً تداول سُدَّة الرئاسة في أعلى هرم السلطة، جعلت المعارضة المتحلّقة حول حزب الله منه مفصلاً، لا في إشغال المنصب، بل في رسم السياسات على قواعد مُستحدَثة تقطع مع المألوف، تحت طائلة الفراغ وسيف المجهول.
المسألة القائمة، في نظر قاطرة المعارضة الفعلية والوحيدة، أي حزب الله، وبعيداً عن العماد عون متصدِّر الصورة ومقدّمة المشاغبة بعامل الاستعجال وضيق الوقت المتاح، المسكون بهاجس السلطة وتجسيد الخلاص، أنّ زمن الانعطاف الجذري قد حان، وأنّ الظروف الإقليمية مؤاتية لاقتناص فرصة ذهبية ترفع لبنان الدولة إلى مصاف الضلع الثالث والثابت والأصيل، من مثلّث الممانعة وبنائه الوطيد في مواجهة الولايات المتحدة علنياً واستطراداً محاصرة إسرائيل، والتحوّط إزاء الأسرة الدولية السائرة في ركاب واشنطن أو المُسايرة لها، والعازفة عن مناهضتها منهجياً في مطلق الحال.
يصعب على منظومة المعارضة القبول بمقتضيات الحياد عن المحاور والاكتفاء بسياسـات تسووية معتدلة على مقاس لبنان وقدراته وحاجاته الاقتصادية. فالأواصر التي تشدّها إلى إيران القلعة وسوريا الجارة من قماشة عقيدية رسالية، تكاد تلامس الرابط العضوي والقرابة الرحمية، ولا ترى عيباً في النموذج الاجتماعي المنبثق عن التجربة الإيرانية، والنظام السياسي السائد في دمشق. بل إنّ هذه المنظومة لا تجد ملامة، أو مجرّد داعي مساءلة، في تفنيدها وأحكامها المطلقة وقراءتها لموازين القوى راهناً ومستقبلاً على نحو وردي قاطع، ورغم السحب السوداء التي تلف سماء المنطقة وتهدّد بالأفدح والمحظور.
إنّ إلقاء وزر أصعب الخيارات على كاهل بلد غير معافى مثقل بالنقائض والاحتياجات، يفوق طاقة لبنان المجتمع والدولة على الاحتمال، ويدعو إلى تعميم منطق قصووي يقود إلى حائط مسدود، ويؤدي، في النتيجة إلى العُزلة والانهيار، والخسارة المؤكّدة التي لا يُعوِّضها فعل عنفوان. ومن المكروه أن يقع الوطن أسير قوالب جامدة تصنف الناس والمعمورة في فسطاطين، وتهدم جسور تواصله وعيشه وقوّته للانغلاق في قلعة عالية الأسوار، إنما فاقدة سُبل التأقلم والتعايش والاستمرار.
يُخطئ من يعتقد أن اللبنانيّين فرحون ومتشوّقون إلى ذلك الكمّ من المداخلات والبعثات الدولية. لكنّ الحقيقة أنّها حكم الضرورة والشفاعة بدولة سقيمة يُراد لها الشفاء، ويعود لأبنائها اجتراح وسائل النجاعة وضخّ الحياة في مفاصلها دونما تمييز أو إجحاف.
ومن نافل القول إنّ الاشتباك اللبناني، على مرأى العالم ومسمعه، لن يُغيّر من انفلاش السياسات، وليس قدره أن يستجلب القوّة الأعظم لهزيمتها، ولا في مقدوره حمل صليب المتقاعِس في السلم والحرب على السواء. إنّ ما نشهده ناتج الإصرار على تقزيم لبنان بتحويله إلى ساحة، لا يعفي من سيئاته قول بالشهادة وعمل بالبطولة أياً كان صفاء النيات والاستعداد للتضحية والتغنّي بالأمجاد.
* كاتب لبناني