يسار أيوب *
أخيراً، تمّ تحديد موعد مؤتمر أنابوليس في 27 من الشهر الجاري، بعد تعاظُم الحديث عنه في الأشهر الأخيرة تحت اسم «مؤتمر الخريف للسلام في الشرق الأوسط». الإدارة الأميركيّة، التي وزّعت دعوات إلى الحضور على أكثر من 45 دولة وجهة رسمية، تريده خرقاً في المسار المستعصي للسلام بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، وذلك تكريساً لرعايتها المباشرة للمنطقة وأزماتها، بدءاً بالملف النووي الإيراني وصولاً إلى فلسطين مروراً بالعراق ولبنان. على أمل إحداث تغيير ما على الأرض يساعد جورج بوش على الخروج من البيت الأبيض بمنجز «تاريخي» في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي يؤسّس لسلام دائم عجز الرؤساء الأميركيّون عن تحقيقه، وهو الغاطس حتى أذنيه في مشاكل العراق، والعاجز عن وضع حدّ لطموح إيران النووي، والمحاصَر بكونغرس ذي غالبية ديموقراطية، والذي يتوالى مسلسل استقالات المقرّبين منه فصولاً. وخصوصاً أنّه يقترب من نهاية ولايته الثانية. وهذا «المنجز التاريخي» لا بدّ من أن يمرّ عبر تطبيق ما يُعرَف بـ«رؤية بوش».
تُؤَسَّس هذه الرؤية على مجموعة من القواعد، أولاها أنّ الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي هو صراع قابل للحلّ سلمياً عن طريق توفير الظرف والدعم المناسب «للمعتدلين» الفلسطينيّين، وبهذا المفهوم يدخل حلّ هذا الصراع في باب الحرب الأميركية على الإرهاب من زاوية ضرب «المتطرّفين» الفلسطينيّين المعدودين ضمن «الطيف الإرهابي الإسلامي» أميركياً.
ثانية هذه القواعد هي التزام أميركي كامل بأمن دولة إسرائيل والحفاظ على يهوديّتها ورفض عودة اللاجئين إلى ديارهم، ورفض الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 1967. مع الإقرار بأنّ بوش كان أول رئيس أميركي يتحدّث عن دولة فلسطينية في حدود عام 1967 آخذاً في الحساب المتطلّبات الأمنية
لإسرائيل.
تبدو هذه النقاط التي أوحى بها بوش في خطابه في مدينة العقبة الأردنية صيف 2003 في اللقاء الثلاثي الذي جمعه بشارون وعباس، تبدو عمليّاً مطالب إسرائيليّة كاملة في وجه الطرف الفلسطيني الذي يحسّ بأكثر لحظاته ضعفاً.
فالرئيس الفلسطيني يمرّ في هذه الفترة بلحظة ضعف نادرة لم يشهدها منذ تأسيس السلطة في 1994. الوضع الداخلي المتأزّم ألقى بظلاله على القدرة الأمنية لـ«فتح» والأجهزة الأمنية الفلسطينيّة، فارضاً فكرة عجز الرئيس عباس عن إحلال الأمن على أراضي السلطة الخاضعة لسيطرته. ومجرّد نشر مئات من قوّات الشرطة في بعض المدن، غير كافٍ لتثبيت السيطرة الأمنية في الضفّة الغربية مع وجود مجموعات عسكرية تابعة لفصائل فلسطينية مختلفة ترفض تسليم سلاحها، وترفض إعطاء «شيك أمني على بياض» للأجهزة الأمنية. فيما الوضع في قطاع غزّة يتّخذ شكل معركة، يبدو إلى الآن أنّ عظم الأجهزة الأمنية الرئاسية هو الذي سيكسر فيها، خصوصاً بعد استعراض القوّة الذي مارسته «فتح» في ذكرى عرفات والردّ الدموي الحمساوي عليها. وهذا ما يدفع للاعتقاد بأنّ عبّاس غير قادر على ضمان أي التزام على الأرض ينتج من مؤتمر أنابوليس. هذا إضافة إلى الانقسام العمودي الحاد في الساحة الفلسطينية ومكوّناتها السياسيّة. بينما يبدو الوضع العربي والدولي غير مؤات لعبّاس في ظلّ انهماك العرب بأكثر من أزمة أشدّ إلحاحاً من أزمة السلطة الفلسطينيّة مثل الأزمة في العراق
ولبنان.
وينعقد المؤتمر في ظلّ تدهور القضية الفلسطينية وتراجعها على الصعيد الدولي بعد انطفاء الانتفاضة وانعدام فعل شعبي فلسطيني يعيدها إلى الصدارة كما حدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، رغم جهود مصر والجامعة العربية في محاولة بلورة موقف عربي واحد في هذا المؤتمر.
وبهذا فإنّ ضعف عبّاس سيضعه أمام خيارين: إمّا تقديم تنازلات كبرى تطال القضايا النهائية في الصراع مثل القدس واللاجئين والحدود متجاوزاً كلّ المحرمات الوطنية والثوابت الأساسية الفلسطينية، تحت وطأة الضغط الأميركي ـــــ الإسرائيلي، أو أن يرفض تقديمها ويظهر بنظر العالم عقبةً أساسية في وجه السلام، تماماً كما حدث مع الراحل عرفات بعد كامب
دايفيد 2000.
لا يملك محمود عباس مجالاً واسعاً للمناورة. وحتى تشدّده الواضح في مسألة الحوار مع حركة «حماس» والشروط القاسية التي وضعها لا يبدو أنّها تخرج عن كونها فتحة «لتنفيس» الضغط المتزايد عليه قبل المؤتمر، ومحاولة منه للفت أنظار الإسرائيليين والأميركيّين عن ماهية البديل الفلسطيني إذا أودى به ضعفه. وبالتالي فهذا الموقف يمكن فهمه على أنّه نوع من التهديد الخفي للحصول على أي شيء مقابل مشاركته. وفي هذا السياق، تندرج القرارات الأخيرة التي أعلن عنها أولمرت بالإفراج عن 450 معتقلاً فلسطينيّاً، وبوقف الاستيطان وإخلاء البؤر الاستيطانية العشوائية ووقف مصادرة الأراضي الفلسطينية.
لكنّ الثمن الذي يطلبه أولمرت في وضعه الضعيف بعد تدهور شعبيته كثيراً نتيجة لحرب تموز 2006 على لبنان، وظهور نتائج لجنة فينوغراد التي دفعت باتجاه استقالة العديد من الضباط في الهرم العسكري الإسرائيلي بالإضافة إلى استقالة عامير بيريس وزير الدفاع، هو ثمن باهظ جدّاً بالنسبة للسلطة الفلسطينية. والسلطة لا تستطيع دفعه خصوصاً أنّ المطلوب إسرائيلياً منها هو الموافقة لتقوية موقف الحكومة الإسرائيلية وأولمرت شخصياً. فالاعتراف بيهودية إسرائيل يعني تقديم تنازل كبير يمسّ جوهر القضية الفلسطينية المتمثّل بمشكلة اللاجئين، بالإضافة إلى كونه يمثّل إعلاناً فلسطينياً للحقّ التاريخي اليهودي في الأرض وتبرئة للحركة الصهيونية وإسرائيل من تبعات حرب 1948 وإلقاء المسؤولية على الطرفين العربي والدولي دون أن تتحمّل إسرائيل أي مسؤولية سياسية أو حتى أخلاقية. فضلاً عن أن اعترافاً كهذا سيدفعها إلى الاستمرار باعتبارها فلسطينيّي 1948 يحتلّون درجة أدنى من المواطنية و«ناقصي مواطنة» في الدولة بصفتهم «غير يهود (جوييم)».
بالإضافة إلى أنّ هذا الإقرار يعني في أحد جوانبه إدانة كاملة للتاريخ الفلسطيني، وخصوصاً الحديث منه المتعلّق بالمقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
ما لا شكّ فيه أن أولمرت واعٍ تماماً لوضعه الضعيف، وأنّه غير قادر على الالتزام بأيّ بند يتمّ الاتفاق عليه مع الفلسطينيّين يتعلّق بالوضع النهائي وبالتسوية النهائية يتضمّن «تنازلات إسرائيليّة». وعلى هذا فإنّ أولمرت يرمي الكرة في الملعب الفلسطيني في مسعى للهروب إلى الأمام من أي تعهّد أو اتفاق مع الفلسطينيّين قد يضطر لقبوله في المؤتمر.
ماذا يستطيع الضعفاء الثلاثة فعله حين يلتقون؟ بالرغم من كل هؤلاء الضيوف الذين سيحضرون المؤتمر ـــــ المهرجان، فإنّ السلام لا يصنعه إلا الأقوياء القادرون على تقديم «تنازلات مؤلمة» تمسّ جوهر القضايا المتنازع عليها في سبيل الوصول إلى تسوية نهائية تضع حدّاً لتاريخ العنف.
هكذا كان الأمر بين السادات وبيغن، وبين رابين وعرفات، ورابين وحسين. وهو ليس الحال بالنسبة لأولمرت وعباس غير القادرين على القيام بأي خطوة حقيقية وجوهرية، بل وحتّى العاجزين عن الذهاب بوثيقة مشتركة إلى مؤتمر يرعاه الرئيس الأميركي الضعيف داخلياً والمُحاط بمشاكله من كل جانب. وبهذا قد لا يخرج هذا المؤتمر عن كونه مهرجاناً خطابياً أو لقاءً موسّعاً يحاول من خلاله كل طرف طرح وجهة نظره المعروفة للجميع، والعودة إلى مكانه بمجموعة لا بأس بها من الصور التذكارية.
* كاتب فلسطيني