الأب يوسف مونّس *
إلى أيّ مجال حرّ هو الإبداع؟ وإلى أي مجال حرّ هو الفن والخلق والفكر؟ أين تقف سيوف النار للمنع السياسي والديني والجنسي؟ إلى أيّ حدّ قدرت الرقابة الدينية أو السياسية أو الجنسية أو الأخلاقية أن توقف الحرية الإبداعية في مسار العقل والفن والجمال؟ أين هي حدود الرقابة الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة وأين هي لا حدود الحرية الفكرية والفنية والإبداعية؟
هناك هوس تاريخي في الشرق الأوسط «هستيريا» أو «سكيوزوفرانيا» (انفصام في الشخصيّة) بالقيام بدور الله والسلطان والأب على الأرض لحراسة حدود الجنس والسياسة والمعتقدات. هوس ديني سياسي وجنسي يستند أحياناً إلى الخرافات والثرثرات والظلم والكبت والهلوسة والهذيان. فهل قدر هذا الهوس على ضبط الإبداع والجمال والفكر؟ وهل قدر على ضبط إيقاع البروميتيين الساعي إلى ذرّ نار الألوهية في قلب بني البشر والأزلية والثورة والتغيير والتحدّي، وإلى أكل التفاحة المحرّمة وكسر الأمر الإلهي مهما كان العقاب؟
لكنّ الفرق كبير بين الفعل الآدمي بكسر الأمر الإلهي والأكل من ثمرة المعرفة، والهرب من المسؤولية وإلقائها على الآخرين كما هي في العقل العبري، والعقل الإغريقي البروميتي يوم جلب Promethe نار الألوهية والأزلية والتحدّي والتمرُّد والمساواة وتحمّل الإنسان البروميتي المسؤولية في العقل الإغريقي. فآدم هرب من مسؤوليّته وانهزم أمام سؤال الله له وحمّل المسؤولية لحوّاء. ولم يقل أنا، بل هي. والثاني أي بروميتوس، تحمّل مسؤوليته أمام زيوس Zeus وقال أنا مسؤول ولقي العقاب.
هذا ظاهر في العقلية الإغريقية. أمّا في العقلية العربية، فيظهر الفرق في الصرف والنحو، حيث الفاعل يقدّر جوازاً أنّه هو والمفعول به «معتّر» إلى أبد الآبدين والكارثة عندما نتكلّم على نائب الفاعل المجهول.

لهبة الجمال الممنوعة

لهبة الجمال المقدّسة صعدت دوماً من نار المحرّقات وأكمل الإبداع طريقه من رماد الضحايا. الشعراء والكتّاب والفنانون والثوّار والفلاسفة والعلماء أناروا دروب الحرية في «خطيئة» تعبيراتهم الثقافية واستفاق العالم بنورهم على عهد النهضة والثورة الجديدة القائمة على الحرية والكرامة والفردية، وعلى الحقّ والحقيقة.
الفكر حرّ، الفن حرّ، العقل حرّ إلى ما لا نهاية. ما دام هو في الحقّ والخير والجمال لا في الابتذال. لأنّ الحق وحده يحرّر والجمال وحده يخلّص العالم مع الخير ولو رجم الفرّيسيون أهله وأقام حراس النظام «الحدّ»، ووظّفوا الدين والسياسة، فإنّ الجمال وحده سينتصر أي الإستتيكا Esthetica لا البورنوغرافيا Pornographiaولا الإيروتيكا Eurotica. والفرق كبير بين المفاهيم الثلاثة، ولا يفهمه إلاّ المبدعون والملهَمون والأنبياء والراؤون، لا قارئو الكتب الصفراء مثل الشيخ يوسف بدري ونبيه الوحش، وحافظو الصفحات العفنة المليئة بالثرثرة وليس بالإبداع والذهول والانبهار والتصوّف وبخصوبة النص المقدس.
النصّ مقدّس، أمّا قراءته فهي خشبية مائتة لا يولد منها كشف إلهي جديد وولادة للأيام الحاضرة. غرق بالعبارات الفارغة المنقولة المردَّدة وليس انبهاراً بطرق النور الجديدة للناس الجدد والعوالم الجديدة والسماوات والأرض الجديدة، «رأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة».
«النص الديني في الإسلام مقدَّس لأنه كلام الله. لكن فهم الإنسان للنص ليس مقدَّساً لأنه فهم إنساني. لذلك فإنّ النص القرآني هو نصّ مقدَّس وثابت ومطلَق المعرفة. أمّا الفهم الإنساني فهو فهم غير مقدَّس ومتغيّر ونسبي المعرفة» (محمد السماك، النهار 11/11/2007).
مَن هو الذي يجرؤ ويقول إنّ تماثيل أثينا العارية المالئة الساحات إيروتيكا أو بورنوغرافيا؟ أو هي مفسدة للذوق والأخلاق أو إنها تدعو إلى الفحشاء أو مخدشة للحياء وليست مغمورة بالإستتيكا Esthetica بالجمال؟ تفيض بالجمال والحياء. الصدر المكشوف، صدر الأم تُرضع طفلها، هي ليست جسداً معروضاً دون حياء، بل أمومة تنبع من الداخل. الحياء والحشمة يغلّفان هذا الصدر. إنّها ذروة الأمومة في الحياء، مثل قبلة رودان Rodinفي الزمن المعاصر.
وماذا عن القول عن تمثال دافيد لميكال انجلو أو تمثال موسى؟ ومَن ذا الذي يستطيع إزالة صور العذراء الكاشفة الصدر والوجه والمرضعة ابنها أمام أعيننا والمعلَّقة في صدر كنائسنا وعلى مذابحنا؟ فهل هي بورنوغرافيا أم إيروتيكيا أم صور جمالية Esthetica تغلّفها الأمومة والبتولية والأمومة والعذرية والحنان؟ أم أنّ الخطيئة في قلبنا والشر في أعيننا والرغبات والعورات فينا لا في الجسد المقدَّس؟ فمن هنا نهتزّ كلما لاحت لنا عينا امرأة أو كاحلها أو شعرها أو صدرها ولا ندهش للجمال الذي أبدعه الله ونمجّده على خلقه ونشتاق إلى جماله هو؟
لنترك الله يدافع عن نفسه دون قهر وذبح الآخرين وتكفيرهم وإهدار دمهم وسفكه بحجة أننا نملك الحقيقة ومعنا مفاتيحها. الأزمة الكبرى تبقى أزمة النور الروحاني فينا وفي الآخرين.
الأزمة هي أزمة الحرية الفكرية والإبداعية في صراعها مع القوى الظلامية الضيقة بعتمة عقلها عند قراءاتها للإنسان وللتاريخ. هذا كان دور سقراط عندما شرب السمّ. قتلته السياسة وقوى الدين لأنّه كان يثير الحماسة في الناس ويدعوهم إلى الحرية والديموقراطية. وهكذا كان موت يسوع عندما اتفقت عليه قوّتان: قوة السياسة مع بيلاطس وقوّة الدين مع رؤساء الكهنة وقطعانية الجماعة وخيانة الأحبّاء. فنحن نصنع لنا إلهاً حسب مقاصدنا وتفكيرنا وعقَدنا ونرجسيّتنا وكبتنا.

محرمات الاغتصاب

أليس هذا ما حدث في فيلم «قضيّة رأي عام»، وهو قصّة اغتصاب تقوم ببطولته يُسرى، من كتابة المؤلِّف محسن الجلاد؟ وقضيّة التحوّل الجنسي في فيلم «صرخة أنثى» الذي يتناول مسألة التحوّل الجنسي وهي قضية إنسانية؟
أليست هذه قضية هالة سرحال وهي قضية بالغة الخطورة في حلقتها الأخيرة؟
أليست هذه قضية الفيلم السياسي «نقطة دم» للسيناريست محمد صفاء عامر وهو يروي قتل الأسرى المصريّين في حرب تموز 1967؟
أو الفيلم «حقّ مشروع» أو قضيّة العنف في الصعيد أو كتابات حامد أبو زيد أو الدكتور حنفي أو الشاعر حلمي وليلى عثمان ونوال السعداوي؟ أو ما حدث في قصيدة أنا يوسف يا أبي لمرسيل خليفة أو لكتاب عبده وازن :حديقة الحواس» أو لمقال عقل العويط أو روجيه عساف أو مسرحية «نشيد الأناشيد» لزاد ملتقى أو مسرحية ربيع مروة؟ أو كتاب جبران: «النبي» أو «الأجنحة المتكسّرة» أو ميخائيل نعيمة: «مرداد»، أو «أفاعي الفردوس» لأبو شبكة والعديد سواها من الكتب التي لا مجال لذكرها هنا.
واليوم يقوم عندنا «ملهمان» كبيران يتكلّمان باسم الله في مصر هما نبيه الوحش والشيخ يوسف بدري، أميرا الانتقام يطالبان بحدّ «الحرابة» على الإعلامية هالة سرحان وسواها من الأدباء والفنانين (وهذا الحدّ يقضي بقطع اليد والقدم والصلب). طالبان جديدة، فرّيسيون جدد، يريدون رجم المرأة كأنهم بلا خطايا (الشرق الأوسط 18/2/2007).
هنا يُطرَح السؤال الكبير عن المقدّس والمدنس عن المحرم والمسموح، وهل هذان المقدَّس والمدنَّس خلقناهما نحن من عقولنا وعقَدنا وأوهامنا وكبتنا، وكياننا بعدما خرجنا من يدي الله وكلنا جمال يفيض من يد الذي جبلنا وحبّه؟

قدسية النص وخصوبته

قدسية النص وخصوبته قائمة فيه لا في ثرثرة مَن يشرحه. حتى أنّ الرسالة تبقى في شخص الرسول لا في قدسية النص. فلو فَرَضاً مزّقنا الإنجيل، يبقى شخص يسوع هو الأساس وليس التذكّر الحرفي للحكاية والقصة والأسطورة أو التحليل. المعنى مرتبط بالزمان والمكان والثقافة الاجتماعية، أمّا الشخص فهو أبعد من الزمان والمكان، هذا ما فعله الإصلاح البروتستانتي، وأحمد زكي، وفرج فودة وأدونيس في الأدب الجديد الذي قدموه لنا. أبقوا للنص قدسيته وأعطوه رمزية جديدة وخصوبة جعلته حديثاً معاصراً. ولم يعد خشبي المعنى فاقد الماوية والحياة.
لذلك كان موقفنا في اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام أن نوعّي الناس لا أن نحرّم الكتب أو أن نوقف الأعمال الفكرية أو الفنية. نحن ترجمنا الأناجيل المحرَّفة ووضعناها حتى في محلات «الفلافل» ليتعرف إليها الناس. رفضنا، أنا شخصياً، توقيف دافنشي كود. بل قلنا إنه قصة خرافية ساذجة وليس كتاباً علمياً دقيقاً بل قصة خيالية غير واقعية مثيرة ومسيئة. فيلم «التجربة الأخيرة» هو فيلم شتّام ومسيء للمسيح ولضمائر الناس وكرامة شخص يسوع، وهو امتهان لرموز المسيحية المقدسة. وكذلك الرسوم الساخرة عن النبي محمد فهي مسيئة لشخص النبي وللإسلاميين ولا يحق لأحد ابتذال والهزء من معتقدات الآخر، فهذا مساس لكرامتهم ولا يدّعي أحد حرية الفكر والتعبير والفن ولا نقبل بهتك براءة الأطفال وكرامة المرأة أو الرجل أو بزعزعة السلم المدني الأهلي وبتدمير رموز ومقدسات الناس، كما حدث لتمثال بوذا أو لهجوم الأشرفية وتدمير الكنائس. لذلك نسأل مَن أعطى الشيخ يوسف بدري حقّ أن يكون أمير الانتقام ليضرب أهل التنوير والحرية، حرية الإنسان وحرية الفنان والشاعر والكاتب (هنا أذكر نصر حامد أبو زيد، حلمي سالم، حسن طلب، محمد سلمان).

طهرية المجتمع وادّعاء العفّة

هنا علينا القول إنّ المجتمع يريد دوماً أن يُظهر طهريّة ونقاءً وتزمّتاً في ازدواجية قاتلة تلبس أقنعة النقاء وادّعاء العفّة، لذلك هي تغضب وتثور لقضايا الجنس والاغتصاب والدعارة وسفاح القربى ومثلية الجنس وحالة مضاجعة الذكران واللواط كما يقول مار بولس. لكن هناك حالة انتهاك وصدمة تتنافى مع كل الرموز والصور والقيم مثل فيلم «تجربة المسيح الأخيرة» للمخرج سكورسيزي وهو للكاتب نيكوس كازانتزاكي، أو فيلم فهرنهايت 451 لراي برادبوري أو كتب مايكل مور.
نحن لسنا مكلّفين من الله لنحرس ملكوته ولا يحق لنا أن ننصّب أنفسنا حرّاساً لله على الأرض وخاصة على أجساد النساء حيث نوزع على هذا الجسد المحرّمات والمقدسات والتابوهات والعورات. نحن اليوم في الكنيسة نحاول أن نوعّي الناس معتبرين أن عندهم من رجاحة العقل والوعي ليعرفوا الحق من الباطل لأن الحق وحده يحرّر وعلينا أن ننوّر عقولهم بالمعرفة والحب والثقافة والتوعية والتنبّه إلى ما هو خطأ وما هو صح وليس بنصب المحارق ورفع سيوف التكفير وإقامة محارق النار ومقاصل الدم وقطع الرؤوس.
هنا نسأل كيف يتطوّر العقل الرقابي والمفاهيم المحرمة فتصبح عادية يوم كانت مذبحية: كتاب غوته «الأم فيرتر» منعت ترجمته إلى لغة أخرى لأنه ينشر موجة من الانتحار بين الشباب الذين أصيبوا بصدمة عاطفية، و«أناشيد مالدورو» للوتر يامون بقيت نائمة في مكتب الناشر لأنه خاف من طباعتها خوفاً من الملاحقة القانونية لما في هذه الأناشيد من تجديف وتمجيد للرب (حاكم مردان، النهار 8/6/2007).
بعض المواضيع لا يمكن أن تدخل في أنواع الرقابة الدينية والسياسية والجنسية، وهي المواضيع الحسّاسة وفي الرموز المقدسة التي بناها الناس، وهي حالة إنسانية نفسية تسبب وحدها عاصفة في قلوب الناس. فيوم رسم الفنان شربل خليل صورة للسيد حسن نصر الله في برنامجه المهم «بسمات وطن» جنّ جنون بعض الناس وهاجموا وكسروا الكنائس والبيوت وخاصة كنيسة مار مارون. لم تقم بذلك الرقابة الكنسية أو السياسية بل فورات غرائز الناس وشعور أعمى. لم يصغوا إلى ما قاله العلّامة السيد محمد حسين فضل الله (النهار 7/7/2007) «إلى عدم تقديس رجال الدين لأن المركز الديني لا يجعل من رجل الدين معصوماً أو قديساً بل لا بد أن نبدي الاحترام له ومن موقع احترامنا له ننتقده وعليه أن يتقبّل النقد».

فوضى الفتاوى

أمّا فوضى فتاوى الفضائيات فحدّث عنها ولا حرج. حتى أنّ مؤسّسة الأزهر اضطرّت أن ترسل خطاباً شديد اللهجة لوزارة الإعلام طالبت فيه بعدم ظهور علماء للفتوى عبر القنوات إلاّ من كبار علماء «مجمع البحوث الإسلامية» منعاً للفوضى الفقهية على الفضائيات وخاصة التشدد في الدين في ظل ثورة المعلومات. هناك أجهزة دولة تراقب وهناك مؤسّسة دينية تراقب. هناك قاموس للمحرمات وخاصة في السعودية، ولائحة الممنوعات طويلة لكنها تجتمع في ثالوث محرّم: السياسة ـــــ الجنس ـــــ الدين (عباس بيضون، تابوات ورقابة).
وضربنا أخيراً بوباء فتاوى على الطلب، تحلّل الحرام وتحرّم الحلال. وبقرارات على الطلب. مجمع البحوث في الأزهر المصري أفتى بمصادرة كتاب «رحلتي مع الشيعة» والتشييع في مصر للكاتب أحمد راسم النفيس لمخالفته مذهب أهل السنة. والنفيس انتقل من السنة إلى الشيعة. (السفير 20/10/2007)
«الأخبار» مُنعت من أن توزع في سوريا لأنها أوردت أخباراً تخالف القوانين السورية. (الأخبار 11/10/2007).
فتوى جلد الصحافيين، إدانة الشاعر حلمي سالم (النهار 28/10/2007). فتوى إرضاع الشريك. فتوى التبرك بالبول..
من هي الجهة المؤهلة لتفتي أو لكي تمنع الكتاب وتنصّب نفسها على الفكر؟ سؤال تصعب الإجابة عنه.
* أجزاء من محاضرة أُلقيَت في معهد غوته في 12 تشرين الثاني 2007 بعنوان: الرقابة على التعبيرات الثقافية في الشرق الأوسط ـــ الرقابتان الحكومية والدينية مؤسّستان متضامنتان