ناهض حتر *
جرت الانتخابات النيابية الأردنية يوم الثلاثاء الماضي، في أجواء باهتة، إذ لم يشارك فيها أكثر من 39 في المئة من نحو ثلاثة ملايين وثلث مليون من المواطنين الأردنيّين الذين يحقّ لهم المشاركة فيها، أو 54 في المئة من المسجَّلين في قوائم الناخبين، حسب الأرقام الرسمية غير المؤكّدة من قبل أية جهة مستقلّة.
كان اليوم الانتخابي مملّاً، مثل حضور شريط مباراة كرة قدم سيئة معروفة النتيجة مسبقاً. ومع ذلك، حملت تلك النتائج اتجاهات انقلاب سياسي، ستكون له آثار عميقة على مجمل تركيبة النظام السياسي الأردني. فلقد تلقّت القوى التقليدية، من بيروقراطيّة الحرس القديم والعشائر والإسلام السياسي، ضربة قاصمة، لمصلحة «طبقة جديدة» من أصحاب الثروات الناشئة من الاتجار مع الاحتلال الأميركي في العراق، وتجارة العقارات والأنشطة غير القانونية، وفي مقدّمها تهريب المخدرات!
وتشير التقديرات المتطابقة إلى أنّ ممثّلي «الطبقة الجديدة» تلك، قد احتلّوا ما لا يقلّ عن خمسين مقعداً في البرلمان الأردني (الذي يتكوّن من مئة وستة مقاعد)، بكلفة تقديرية للمقعد الواحد تراوح بين مليونين وثلاثة ملايين دولار، جرى إنفاقها على الإعلانات والمقارّ واللوجستيات وشراء الأصوات.
وعلى مدار الأشهر الثلاثة الفائتة، تجاهلت الجهات الأمنية والحكومية عشرات المقالات والبيانات والتقارير التي حذّرت من طغيان ظاهرة تجارة الأصوات على نحو غير مسبوق في البلاد، حتّى إنّ صحيفة «العرب اليوم» ووكالة «عمون» الإخبارية نشرتا صوراً ووثائق لعمليات شراء الأصوات وبيعها، وبثّت فضائية «الجزيرة» شريطاً لإحداها، فلم تتحرّك النيابة العامّة، ولم يحُل فضح وقائع شراء الذمم دون فوز أبطالها فوزاً ساحقاً بمقاعدهم النيابية المشتراة.
وإذا ما أعدنا قراءة العملية الانتخابية الأخيرة في ضوء المشهد السياسي الأردني، نستطيع الاستنتاج أنّ المجموعة الليبراليّة الجديدة المسيطرة على مفاصل القرار في البلد، على رغم هشاشة وضعها الاجتماعي ـــــ السياسي، وضعف جذورها في التركيبة الأردنية، وانعدام قدرتها على خوض معركة انتخابية أو سياسية بقدراتها أو بواسطة «مثقّفيها»، قرّرت الاستعانة بـ«قاعدتها» الخاصّة من الأثرياء الجدُد، لاستباحة الانتخابات، والسيطرة على البرلمان.
كانت تجربة المجموعة الليبراليّة الجديدة مع البرلمان التقليدي المنصرمة ولايته صعبة. فعلى رغم طواعية ذلك البرلمان في قضايا السياسة الخارجية التي تُعتَبَر حقلاً خاصاً بالملك، فقد أبدت الغالبيّة التقليديّة في ذلك البرلمان معارضةً قويّة للعديد من القرارات والتشريعات المطلوبة من قبل الليبراليّين الجدُد.
وقد أسقطت هذه المعارضة حكومة عدنان بدران وباسم عوض الله، في خريف 2005، واضطرّت الملك إلى تكليف رئيس وزراء من الطبقة الوسطى، ومن خلفية بيروقراطيّة عسكريّة، هو الدكتور معروف البخيت الذي استخدمه الليبراليّون الجدُد بمثابة واجهة لمدّة سنتين، كانوا خلالها يمارسون الحكم فعليّاً مجرِّدين «دولة الرئيس» من صلاحياته ومغرقينه بالهجمات.
يحول النظام الانتخابي المعمول به في الأردن، والقائم على أساس الصوت الواحد للناخب في دوائر محلية شبه مغلقة، دون اختراق القوى الاجتماعية الحديثة والأحزاب اليسارية والقومية والشخصيات الوطنية العامّة، للبرلمان، إلّا في أضيق نطاق ممكن، ولكنّه يمنح القوى العشائرية والزعامات التقليدية من الحرس القديم فرصاً مؤثّرةً للحصول على الغالبيّة البرلمانية، بينما يتمكّن الإخوان المسلمون من حصد مقاعد الدوائر التي يغلب عليها الناخبون من أصول فلسطينيّة، وتساوي، عادة، أقل من 20 في المئة من مقاعد البرلمان.
وعلى خلفية القرار السياسي بضرب القوى التقليدية، البيروقراطية والعشائرية والإسلامية، جرت نقاشات عديدة لتعديل النظام الانتخابي المصمَّم أصلاً لخدمة هذه القوى، لكن خُشي من أن أيّ تعديل لذلك النظام، مهما كان شكله، سوف يفتح الباب أمام القوى الاجتماعية الحديثة والقيادات الوطنية واليسارية. وقد طُويت صفحة تلك المناقشات لمصلحة إجراءات غير قانونية في ظلّ النظام الانتخابي الحالي تمنع التقدميّين من المنافسة وتضرب التقليديّين والإسلاميّين في الوقت نفسه، وذلك من خلال السماح، خلافاً للقانون، بإجراء عمليّات نقل كثيفة لسجلّات الناخبين، وخصوصاً من المخيّمات والمناطق الأكثر فقراً، إلى دوائر انتخابية أخرى، وهو ما أدّى إلى خلخلة التركيبة الاجتماعية ـــــ السياسية للدوائر المحلية، ووجّه ضربة للزعامات العشائرية والتقليدية والإسلامية التي ظهر لها منافسون يعتمدون على الناخبين المنقولين المستعدّين لبيع أصواتهم.
وبالنظر إلى خلخلة تركيبة الدوائر المحلية، فقدت الآليات التقليدية قدرتها على ضبط العملية الانتخابية، وتفتّتت العشائر إلى أجنحة، وأصبح المال هو سيّد الموقف. وقد حقّق نتائج باهرة.
يقدّر مراقبون أنه جرى إنفاق أكثر من 250 مليون دولار أميركي في الحملات الانتخابية، منها مبلغ أساسي أُنفق لشراء الأصوات، دفعها حديثو النعمة في بلد يعاني ضائقة اقتصادية خانقة. ولم يحدث ذلك فقط تحت أعين الجهات المسؤولة، بل أيضاً بتشجيعها وصولاً إلى ما يشبه الانقلاب الأبيض.
ومن أهمّ المؤشّرات السياسية الانقلابية في لوحة البرلمان الجديد:
ـــــ تراجع حصّة الحرس القديم إلى أقل من الربع، بل بالكاد فاز أساطينهم في معاقلهم العشائرية، بينما خسر معظم محازبيهم مقاعدهم السابقة، ما سيؤثّر في دور الحرس القديم في مواجهة الليبرالية الجديدة وسياسات التوطين السياسي للّاجئين.
ـــــ انهيار كتلة الإخوان المسلمين من 17 إلى 6 مقاعد، ويرتبط ذلك بإحجام القواعد الإخوانيّة المتشدّدة عن المشاركة في الانتخابات لمعاقبة المرشّحين الإسلاميّين المعتدلين على الصفقة التي عقدوها مع الحكومة.
ـــــ الأهم هو الانقلاب داخل القاعدة الانتخابية الفلسطينيّة التي كان يمثّلها الإخوان المسلمون تقليدياً، لمصلحة «الطبقة الجديدة» من أثرياء الحرب. فمن بين 18 نائباً من أصل فلسطيني، لوحِظ فوز ثلاثة إسلاميّين فقط، بينما حصد «رجال الأعمال» الخمسة عشر مقعداً الباقية.
سمحت نتائج الانتخابات الانقلابية هذه بانتقال الممثّل الرئيسي للّيبرالية الجديدة باسم عوض الله من موقع نافذ لكنه غير رسمي، هو مدير مكتب الملك، إلى منصب قيادي رفيع هو رئاسة الديوان الملكي، ما سيمنحه سلطات إضافيّة واسعة، بينما جرى تكليف نادر الذهبي ـــــ شقيق مدير الاستخبارات العامة محمد الذهبي ـــــ برئاسة الحكومة. الرئيس الجديد تكنوقراطي غير مسيَّس، ومن أوساط غير تقليدية، ما يشير إلى شعور القصر بأنه لم يعد بحاجة إلى شخصية عشائرية كواجهة في رئاسة الوزراء.
ويتساءل المراقبون في عمّان عن الحكمة في تكوين نخبة برلمانية وحكومية ضيقة التمثيل وهشّة اجتماعياً، عشية ثلاثة استحقاقات كبرى تواجه البلاد، وهي:
1 ـــــ تحرير تجارة النفط المقترن بتصاعد سعره إلى ما فوق مئة دولار للبرميل، ما ستكون له آثار دراماتيكية على أسعار المحروقات والكهرباء والمياه وتكاليف إنتاج السلع والخدمات والغلاء وتفاقم معدّلات الفقر وتراجع الفئات الوسطى، في وقت فشلت فيه السياسات الاقتصادية الليبرالية في تشغيل استثمارات ذات قدرة على استيعاب البطالة، وتستعدّ فيه الحكومة المركزيّة لشطب كل أنواع الدعم للسلع والخدمات الأساسية من الموازنة العامّة، ما سيقود بالتأكيد إلى اندلاع سلسلة من الاحتجاجات الاجتماعيّة.
2 ـــــ إمكانية حدوث «مفاجآت» على المسار الفلسطيني يتحسّب لها الملك في تصريحات علنيّة، وتعيد طرح التوطين السياسي للّاجئين في الأردن، وتستعيد الضغوط الأميركية على عمّان للقبول بمشروع الكونفدرالية مع الضفّة الغربية المحتلّة والممزَّقة إلى كانتونات.
3 ـــــ التغييرات المتوقَّعة في العراق في اتجاه ترتيبات سياسيّة جديدة سوف تكون لها انعكاسات إقليميّة، سواء لجهة الانسحاب الأميركي، جزئياً على الأقل، وإعادة ترتيب النظام السياسي العراقي الذي يستوجب حضوراً أردنياً فاعلاً، أو احتمالات العدوان على إيران وما سيترتّب عليه من آثار.
في الخلاصة، تبدو الخيارات السياسية الداخلية في الأردن، بانكماشها وضيق قاعدتها وتهميشها للقوى التقليدية واستبعادها للقوى المدنية، في مواجهة تحديات عاصفة، وكأنها نزوع انتحاري، من خلال الضرب في الوقت نفسه لمكانة الإسلام السياسي المعتدل وصدقيته، وللزعامات العشائرية والتقليدية، في معادلة تبدو هي المرجوّة من قبل السلفيّة الجهاديّة.
كذلك يبدو استصغار شأن الإفقار المتنامي وانهيار الطبقة الوسطى، مقترناً باستصغار شأن الصراع المتزايد حول الهويّة الوطنيّة للبلد، وكأنّه وصفة للصدام الأهلي.
* كاتب وصحافي أردني