شيماء الصراف *
نـُشرت حادثة وتداولتها وسائل الإعلام وأصبحت لها أصداء عالمية. هناك فروق ليست بالمهمة في تفاصيل ما ُنشر. المهم أمران أساسيّان:
الفتاة ذات الـ19 عاماً، من منطقة القطيف في المملكة العربية السعوديّة، جالسة مع شاب لا تربطها به قرابة في سيارة. هاجمهما سبعة شبّان واغتصبوهما. قضت المحكمة للفتاة ورفيقها بـ90 جلدة عقوبة بتهمة «الخلوة غير الشرعية»، وراوحت أحكام السجن بين سنة وخمس سنوات والجلد بين 80 و1000 جلدة للشبّان مرتكبي فعل الاغتصاب.
حدث هذا في تشرين الأوّل من العام الماضي. قدّمت الفتاة ـــــ بواسطة محاميها ـــــ طلباً لمحكمة الاستئناف. في 14 ـــــ 11 ـــــ 2007، خسرت الفتاة الدعوى. قامت المحكمة، إثر ذلك، بمضاعفة العقوبة. استُعمِل في تكييف التهمة تعبير فقهي إسلامي، كما أنّ نوع العقوبة مستمدّ من التشريع الإسلامي.
استناداً إلى الفقه الإسلامي، وقواعد الشريعة عموماً، يمكن إيراد الملاحظات التالية:
مصطلح الخلوة الشرعية
يُستعمل عادةً في إثبات المهر أو عدمه للمرأة؛ فإن أُغلق الباب وأُسدلت الستارة أو الستور على الزوجين بعد إتمام عقد الزواج ثبت المهر للمرأة باعتبار أن باستطاعة الرجل الدخول بزوجته، وهذا على مذهب الإمام أبي حنيفة فقط.
والحال أنّنا لا نستطيع استعمال هذا المصطلح خارج إطاره، وذلك في الحياة الاجتماعية اليومية. فهناك خلوة واجتماع يحصلان بين رجل وإمرأة في كل لحظة وفي أيّ مكان، فينفردان. كالتاجر أو التاجرة مع العميل من الجنس الآخر، خلوة في الدوائر الحكومية، في المصانع والمعامل، في ممرّات أو صالات الفنادق، مع سائق السيارة حين استئجارها، وغير ذلك في عشرات الحالات. السؤال: هل يتمّ القبض على الرجل والمرأة ومحاكمتهما في كل مرّة بتهمة «الخلوة غير الشرعية»، والعقاب بالجلد؟.
الخلوة بين المرأة والرجل موجودة في جميع المجتمعات العربية والإسلامية، منذ أقدم العصور. ولا سلطة من أي نوع تعاقب أو تحاسب عليها.
هذا الأمر الأخير ـــــ أي المحاسبة والحساب ـــــ يتحقّق في حالة مفاجأة المرأة والرجل في حالة ممارسة جنسية تامّة أو اتصال جسدي بأفعال متنوعة، على أن لا يكون هناك علاقة شرعية تربطهما.
وهذا أيضاً مشروط ومربوط بقرار الأشخاص أي الشهود، فإمّا هتك ستر الفاعلين وفضحهما على الملأ، وإمّا الستر والتستّر. والحال أن الشريعة ـــــ قرآناً وسنةً ـــــ حثّت على الستر.
التعزير
هي العقوبة التي يفرضها القاضي على الرجل أوعلى الرجل والمرأة اللذين فوجئا في حالة لا توصَف بالممارسة الجنسية الكاملة، كالتقبيل والاحتضان... ويرجع تقدير العقوبة إلى القاضي حسب ملابسات وأحوال كل حالة على حدة. «التعزير» مصطلح عام شامل واسع؛ فقد يكون النصيحة والإرشاد، أو التعنيف والزجر أو عقوبة جسدية
أو الحبس.
إنّ الفرق بين الفعل الذي يستحقّ التعزير وذلك الذي يستوجب الحدّ، ورد في السنّة: فحين جاء ماعز وأقرّ بالزنا بين يدي الرسول الكريم قال له: أبِك جنون؟ قال لا، وفي رواية: لعلك قبّلت أو غمزت أو نظرت؟، وفي أُخرى لعلك بلت، لعلّك لمست، لعلك غمزت؟ وهذه أمور مسقطة للحد.
إنّ الفعل من الخطورة بمكان فلا يثبت بالظن ولا مع الشبهة القوية، بل لا بدّ فيه من التحقيق والتثبّت من غير شكّ ولا ريبة من جميع النواحي على الإطلاق، بدءاً باعتراف الشخص (والتراجع عن الاعتراف يُسقط الحدّ)، إلى الشروط الواجب توافرها في شهادة الشهود موضوعياً وذاتيّاً، وظروف الحادث. وهناك حديثان للرسول الكريم، الأول: «ادرأوا الحدود بالشُبهات»، والثاني: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإنه خير للإمام أن يخطئ في العفو من أن يخطئ في العقوبة».
إذاً يجب دفع العقوبة عن الشخص إن كان هناك سبيل، فأبسط وأقل شك يوقف تطبيق العقوبة، وكان لكلام الرسول الكريم تطبيقه الكامل من بعده وعلى مرّ القرون.
اغتصاب / استكراه المرأة
من حيث التعريف، الاغتصاب مأخوذ لغوياً من «الغصب»، وهو أخذ الشيء ظلماً. غصبها نفسها: واقعها كرهاً. المواقعة: الفعل الجنسي.
الإكراه: حمل الشخص على أمر هو له كاره.
امرأة مُستكرهة: غُصبت نفسها، فأُكرهت على ذلك.
وفي جميع المذاهب الفقهية، يُعاقَب مغتصب المرأة بتطبيق الحدّ عليه. لا عقاب للمرأة المستكرَهة، وهذا الحكم متفق عليه إجماعاً. يدفع الرجل صداقاً لها، وعلى المرأة العدّة بغرض معرفة براءة الرحم. فإن هي حملت يـُلحق ولدها به ويثبت النسب منه.
وحكم الأمَة والحرّة سواء، فيُقرن بعضهما ببعض عند الكلام عن الإكراه. وهذه الأحكام تشمل المرأة المجنونة التي لا تعقل، المرأة النائمة، والصبية الصغيرة. استند الفقهاء في وضعهم لهذه القواعد إلى ما سبق من أحكام وفتاوى صدرت عن الإمام علي بن أبي طالب، الصحابي ابن مسعود. ومن التابعين عن عطاء، فقيه مكة ومفتيها في عصره، وسليمان بن يسار الفقيه والمحدَّث. وكذلك المجتهد الفقيه ربيعة الرأي وبه تفقّه الإمام مالك في المدينة.
إذاً هناك عقوبة الموت لمغتصب المرأة، والمهر لها ويـُقدَّر بما تأخذه مثيلاتها من النساء، وهو هنا تعويض مالي عن الضرر الذي لحق بها.
التطبيقات: القضاء والسلطان
التابعي الإمام الحسن البصري، إمام أهل البصرة وحبر الأُمّة في زمنه، تولّى القضاء في فترة من حياته، له حكمان في استكراه المرأة، وفي الاثنين عاقب الرجل وغرّمه مالاً.
اخترت هذا المثل لكي أُبيّن ما يجب أن يفعله القاضي في حماية الضحية وهي هنا المرأة. إنّ الحسن البصري عُرف بشجاعته وعظيم هيبته في القلوب، فلم يكن يخاف السلطة وكان يدخل على الولاة يأمرهم وينهاهم، وكان له مواقف مع الأمراء والخلفاء. هذا الرجل، الحسن البصري أبكته امرأة، أدخلت عليه وقد انتـُهكت، واغتـُصبت، واستـُكرهت. كانت ممزّقة الثياب، يحمل جسمها آثار مقاومتها: وجه مخمّش، وجسد منهك معذّب. أصدر الحسن حكمه على الجاني، ثم ــــــ يقول الراوي ــــــ «جعل الحسن يبكي يومئذ وهو قاض».
ما لذي رآه في وجهها؟ هل استحضر كل ما في الشريعة من وصايا وأوامر في وجوب حماية المستضعفين ورفع الحيف والظلم عنهم؟.
ومع السلطان محمود بن سُبـُكْتـِكين الغزنوي، فاتح الهند وحاكمها من أقاصيها إلى نيسابور. اتخذ من غزنة عاصمة له، وهي مدينة عظيمة اشتهرت بعلمائها تقع على الحدّ بين خراسان والهند. السلطان تركي الأصل عربي اللغة، كان من أعيان الفقهاء موسوعي العلم والثقافة وله مؤلفات عديدة، يجالس العلماء ويناظرهم. وُصف بالحزم وصواب
الرأي.
رجل بهذه الصفات يعرف أن دوام المُلْك لا يكون إلاّ بالعدل والإنصاف وهكذا كان. راوي الحادثة هو مبعوث الخليفة العباسي القادر بالله إلى الغزنوي حاملاً رسالة إليه. يـُنهي المبعوث مهمته ويخرج برفقة السلطان وبطلب منه. كان الموكب عظيماً، فالجيش نصفان: نصف يتقدّم السلطان والمبعوث، والنصف الآخر من
خلفهما.
توقّف الموكب، فقد اعترضته امرأة تستغيث بالسلطان، يقف هذا ويسألها عن حالها فتخبره عن نفسها وعائلتها المتواضعة، ثمّ تقول إنها خرجت لقضاء بعض أمورها فاعترضها رجل من رجال السلطة ودولة السلطان، وذكرت له اسمه ومن هو. لقد أرادها وقاومته، لكنه «غلبها على نفسها وارتكب الفاحشة منها». في الحال استدعى السلطان الرجل حقّق معه فأقر هذا واعترف بصحّة ما روته المرأة. وكان الرجل متزوّجاً فلا مجال لتطبيق العقوبة الأقلّ.
قُتل الرجل رجماً وأُحرق أمام السلطان. ثم أصدر السلطان أمراً ببيع أملاك الرجل وتسليمها للمرأة «بحقّ ما ارتكبه منها».
فالتعويض المالي حقّ لها مقابل الضرر الذي لحقها. لم يصدر السلطان أمراً بتحرّك الموكب إلاّ بعدما أتمّ كل ما يتعلق بإنصاف المرأة وردّ ظلامتها.
* كاتبة متخصّصة في التاريخ الإسلامي