زيد الزبيدي *
يبدو أنّ هناك تنافساً سياسياً في العراق على خلفية المشاكل المستعصية التي جاء بها الاحتلال، والتي تكشف عن هشاشة أو وضاعة تفكير بعض الساسة القادة الذين ما زالوا يناقشون وضع عشرات الآلاف من المعتقلين، ممّن لم توجَّه لهم أية تهمة، أو اعتُقلوا لدوافع كيدية أو على خلفيات طائفية لا أكثر، والذين مضت على اعتقال بعضهم عدّة سنوات.
وبعد الزيارات التي قام بها نائب الرئيس طارق الهاشمي لعدد من المعتقلات، ومطالبات بعض الكتل السياسية بإطلاق سراح «المعتقلين الأبرياء»، ممّن لم تثبت عليهم أيّة تهمة، غضب رئيس الوزراء نوري المالكي، وأصدر أمراً بمنع زيارة أي مسؤول للمعتقلات، وتفقُّد أحوال المعتقلين، ما أثار استغراب أبسط بسطاء الناس. إذا كان المسؤولون ممنوعين من تفقّد المعتقلين، فكيف هي الحال مع أهالي وذوي أولئك الذين اعتقلوا، وأصبح مصيرهم مجهولاً منذ اقتادتهم الأجهزة «الأمنيّة» إلى حيث لا يعلم أحد، والذين عُثر على جثث الكثيرين منهم في الطرق والأنهار التي شبعت أسماكها، إلى درجة أنّ بعض رجال الدين أفتوا بحرمة أكل السمك النهري، لأنّه قد يكون اقتات من أبناء أو أقارب آكليه!
وبعد تدخّلات سياسية، واتفاقات لا تزال غامضة، تتعلّق بوقف بعض أعمال العنف، وإعادة الاستقرار إلى بعض المناطق التي كانت ساخنة، أطلقت القوّات الأميركية سراح أكثر من خمسة آلاف معتقل، ادّعى الهاشمي أنّه هو الذي سعى من أجل ذلك، بينما الحكومة لم تطلق سراح أي من المعتقلين لديها، بل حذّر العديد من المسؤولين فيها من مغبّة «إطلاق القوّات الأميركيّة سراح الإرهابيّين».
وعلى رغم الموقف المعروف لرئيس الوزراء من هذا الموضوع، ومعارضته إطلاق المعتقلين، الذين كان هو على رأس من أصدروا الأوامر باعتقالهم، فقد تغيّر الموقف المعلَن، ولو شكلاً، وكان المالكي حاضراً عندما أطلقت القوّات الأميركية 449 معتقلاً قبل أيّام، مقابل إطلاق تلك القوّات تسعة إيرانيّين.
وازداد الموقف تغيّراً من باب المزايدات، عندما أعلن المالكي أخيراً أنّه أوصى مجلس القضاء الأعلى بإطلاق من لم تثبت عليهم أية تهمة. وهذه التوصية بطبيعة الحال، لا يحدّدها سقف زمني، إذ تقول الحكومة إنّها ليس لديها من قضاة التحقيق ما يكفي للنظر في قضايا كلّ هذه الأعداد الكبيرة من المعتقلين. وهنا توقع الحكومة نفسها في أسوأ فخّ نصبته لنفسها، فمن الذي أمر باعتقال عشرات الآلاف، وتنفيذ الإعدامات السرية، إذا لم يكن هناك عدد كاف من قضاة التحقيق؟
إنّه اعتراف صريح من الحكومة بعشوائية الاعتقالات وعدم قانونيتها، ناهيك بمجهوليّة أماكن وجود الآلاف ممن أُلقي القبض عليهم على الهوية أو لمجرّد الاشتباه.
وحسب التقديرات، في الحدود الدنيا، هناك نحو مئة ألف معتقل لدى الحكومة والقوّات الأميركيّة، معظمهم ممّن لم يرتكبوا أيّة أعمال عنف، وربّما ليس عليهم مخالفة سير حتى. فهل يعني إطلاق سراح هؤلاء «مكرمة» من الحكومة أو قوّات الاحتلال؟ لعلّ أيّة حكومة، مهما كانت بدائية، تخجل من نفسها عندما تدّعي أنّها اعتقلت أكثر من نصف مليون مواطن خلال أربع سنوات. ولو كانت نسبة 10 في المئة فقط من هؤلاء هم من المقاومين، في أميركا لا في العراق، فإنّ هذا العدد كبير جدّاً، ويكفي لزعزعة كل أركان البيت الأبيض، لا المنطقة الخضراء.
فما معنى موجات الاعتقال الانتقامية هذه التي يشهدها العراق؟ وهل جاء الاحتلال ليقتصّ من نظام صدام حسين ورجالاته، أم من الشعب العراقي؟
نحن العراقيّين نعلم جيداً أنّ الاعتقالات لم تشمل سوى أنفار من نظام صدام حسين، وأنّ ذلك النظام لو كان لديه من المدافعين عنه 10 في المئة ممّن اعتُقلوا، لما تمكّنت الآلة الحربية الأميركيّة، التي أثبتت ضعفها على الأرض، من احتلال مدينة عراقية واحدة.
وبعد كلّ هذه المآسي التي عاناها ويعانيها المعتقلون وعوائلهم، يتكرّم السادة المحتلّون بإطلاق بعضهم، ثم تأتي «المكرمة» الحكومية بـ«التوصية» بإطلاق سراح الأبرياء... فهل سمع أحد في العالم أنّ إطلاق سراح بريء يحتاج الى توصية من أعلى المستويات بعد تسويف ومماطلات ومزايدات؟ ثمّ أليست هذه دولة القانون أو حكومته كما يشتهي المحتلّ وأعوانه تسميتها؟
ولعلّ الأغرب والأكثر غرابة وبشاعة أنّ الذين نفّذوا الاعتقالات ــــــ حسب الحكومة ـــــ هم أفراد «عصابات إجرامية» تغلغلت في الأجهزة الأمنيّة. وحسب المصادر الرسمية، فُصل أكثر من 115 ألفاً من ضبّاط الأجهزة الأمنية وأفرادها في الآونة الأخيرة فقط، لثبوت تورّطهم في أعمال عنف وقتل وتهجير طائفي وفساد.
إنّه أمر أغرب من الخيال أن ينوجد مثل هذا العدد من الفاسدين والمجرمين «الأمنيين» في أيّة دولة، والأغرب منه هو ألّا ينتحر (ولا نقول يستقيل) من يتولّى الحكم في مثل دولة كهذه!
* كاتب وصحافي عراقي