فايز فارس
يبدو أن الذي يحتاج فعلاً إلى عقد مؤتمر أنابوليس للسلام هو الرئيس جورج بوش الابن، لا أولمرت وعباس والسنيورة والمالكي ومبارك والأسد وملوك العرب وأمراؤهم. كما أنّ المستفيد الوحيد الأوحد سيكون السيد بوش صاحب الدعوة إلى عقد مؤتمر كهذا، لأنّ كل هؤلاء السادة الرؤساء والملوك والأمراء ليسوا في الواقع في حاجة إلى الذهاب إلى أميركا إذا ما رغبوا فعلاً لا قولاً في اللقاء والتفاهم من أجل صنع شرق أوسط جديد على قياسهم، تلبية لرغبات شعوبهم المقهورة وتطلعاتها.
بعد مرور عقدين ونيف على انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي وخلو الساحة الدولية أمام طموحات أميركا وعولمة سياسيّة واقتصاديّة ماليّة وثقافيّة إعلاميّة، نرى أن حكّام الولايات المتحدة الأميركية الذين تعاقبوا على إدارة شوؤنها لم ينجحوا إلا في إشعال حرب هنا ونزاع هناك مع سابق إصرار وتصميم بعدما تمكنوا من إبعاد أو تحييد رجال الإطفاء والدفاع عن الحريّات وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها في هذا العالم البائس، ومنعهم من التدخّل من أجل إخماد نار حرب هنا أو التوصل إلى حل نزاع هناك.
وقد بدأ تنفيذ الخطة عملياً مع أواخر عقد الستينيات مع توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم وحصول انقلابات عسكرية في ليبيا والسودان والعراق وسوريا ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر المفاجئة واستبداله بالرئيس أنور السادات، التي استمرت مع اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز وتكريس أبو عمار زعيماً فلسطينياً، وإندلاع الحروب اللبنانية العبثية، وانطلاق الثورة الإسلامية الإيرانية كردة فعل على الانقسامات العربية، وبخاصة في لبنان ومنطقة الخليج التي اشتعلت هي أيضاً أو أُشعلت أكثر من مرة.
وبموازاة هذه الحروب والنزاعات، أعلن اللاعبون الأميركيون وحلفاؤهم حرباً من نوع آخر على الأنظمة والتنظيمات والأحزاب التي رفضت «التعاون الكامل» معهم في تنفيذ خطتهم الهادفة إلى نشر الديموقراطية وبناء شرق أوسط جديد.
ومع اجتياح العراق وسقوط نظام صدام حسين و«وفاة» أبو عمار، أُسدل الستار على آخر رموز تلك المرحلة. هكذا لم تتمكن قيادات دولنا العربية الناشئة خلال نصف قرن مضى من الوصول إلى تحديد خياراتها سياسيّاً وبناء ذاتها اقتصادياً وصنع المجتمع العربي الحديث واكتساب الهوية الوطنية الجامعة التي كانت كلها تحتاج إلى الربط حيناً والتوفيق أحياناً بين إلزامية المحافظة على القيم الإنسانيّة والثقافية الوطنية والحاجة إلى التطور والانفتاح والنمو والارتقاء لتتمكّن من محاكاة الدول النامية والمجتمعات المتقدمة في زمن لا يرحم أبداً المتخلفين المتقاعسين.
ففي لبنان تمّ القضاء تقريباً، خلال ثلاثة عقود من الاقتتال الأهلي، على كل الأحزاب اللبنانية، ما عدا حزب الله، ليجد إلى جانبه التيار الوطني الحر وتيار المستقبل. هم الورثة الفعليون، كلٌّ على طريقته الخاصة أو لأسباب خاصة بجمهوره. وفي فلسطين خرجت «حماس» من رحم المعاناة والصدمات ونمت على أنقاض تلك المشاريع الفاشلة التي قَبِلََ بها أو شارك في صنعها قادة «فتح». بينما ديكتاتورية الحزب الواحد وإخفاقات النظام التوتاليتاري سهّلا على الأجنبي عزل العراق أولاً، واجتياح أراضيه ثانياً والعبث في مقدراته وثرواته ثالثاً، قبل أن يتمكن العراقيون ذات يوم من العودة إلى رشدهم وتوحيد صفوفهم واستعادة ما خسروه من كرامة وعزّة وإباء. ونسأل: من يمنع حزب الله وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر من توحيد الجهود وإنقاذ البلاد؟ ومن رمى باتفاق مكة في نار جهنم؟ وما الذي سيجنيه العراقيون من التقسيم الذي يتهددهم غير الجوع والعطش إلى كل شيء والتخلف والانحطاط؟
يبدو أن نزلاء البيت الأبيض لم يتعلموا من تجارب عظماء حقيقيين أمثال الجنرال شارل ديغول الذي قال ذات يوم خلال زيارته الأولى لهذا المشرق: «أقصد هذا الشرق المعقّد حاملاً أفكاراً مبسّطة». كما أن مساعدي الرئيس بوش لم يرغبوا، أو لم يتسن لهم خلال الثماني سنوات الماضية، أقلّه مراجعة تلك الدراسات والأبحاث القيّمة التي يذخر بها قسم الشرق الأوسط في مكتبة الكونغرس الأميركي. لذا نرى أنّ الرئيس الأميركي لن يتمكن من تحقيق شيء يستحق الذكر في مؤتمر أنابوليس، أي إنه سيكون هناك فقط آلات تصوير ومصافحات وعناق وابتسامات عريضة وتصريحات رنّانة وبرنامج طويل عريض تعب على تحضيره خريجو جامعات أميركا ومراكز أبحاثها ليقوم مقام بيان محشو بالوعود العرقوبية. والسبب بسيط: إنّ غالبية الحكّام والقادة المشاركين في مؤتمر أنابوليس لا يستحقون التحدث باسم شعوبهم، لأنهم في أحسن الأحوال، يمثلون فقط بعض المصالح الفئوية الضيّقة. وبالطبع سيضم المؤرخون والباحثون أعمال مؤتمر أنابوليس إلى أعمال مؤتمرات سبق عقدها من مدريد إلى طابا وشرم الشيخ، مروراً بأوسلو وكامب ديفيد وواي ريفر وملحقاتها تحت عنوان كبير، هو «السلام الموعود».