strong>لطيفة بوسعدن *
فيما لم تتجاوز المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في المغرب، التي جرت يوم السابع من أيلول الماضي، نسبة 36 في المئة من مجموع الكتلة الناخبة، فاقت نسبة الأصوات الملغاة مليون صوت، ما يعني أن أصحابها ذهبوا إلى مكاتب الاقتراع لا لاختيار اللائحة الحزبية التي تعكس ميولهم السياسية، بل ليدوّنوا على أوراق التصويت تعبيرات تنتقد الطبقة السياسية برمّتها.
مرّت الحملات الانتخابية باردة، وتحوّل معها المواطن إلى مجرّد متفرّج على عروض سياسية متشابهة تكاد تُمحى فيها الحدود الفاصلة بين اليمين والوسط واليسار.
وفي قراءة سريعة يمكن بلورة الملاحظات التالية:
أوّلاً، تأكيد حزب الاستقلال لنموذجه في المناورة والوسطية. فقد نجح الحزب، وهو أحد الأحزاب التاريخية الآتية من الحركة الوطنية، في استرجاع ثقته بنفسه وتأكيد نموذجه السياسي المبني على الوسطية التي تتيح له الالتقاء المستمرّ مع السلطة، فيكون موالياً حين يتولّى الحكم، ويتحوّل إلى المعارضة الشديدة حين يفقدها. وبعكس الأحزاب الأخرى التي تنافست في الانتخابات، يجيد حزب الاستقلال الذي سيقود الحكومة المقبلة، مهنة التسويق السياسي خلال الانتخابات، ويحلّ خلافاته الداخلية قبل أن تصل إلى مرحلة الانشقاق، من خلال التوزيع المتكافئ بين أقطابه للمردود السياسي للسلطة، والدفاع المستميت عن مصالحه.
وينهج حزب الاستقلال أحياناً سلوكيات سياسية تبدو متناقضة. فبعدما شارك في عدّة حكومات خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لم يجد حرجاً عام 1990 في التشارك مع الاتحاد الاشتراكي لتقديم عريضة تطالب بفرض الرقابة على الحكومة بعد استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، التي لم تكن سوى نتيجة لاختيارات سياسية كانت الحكومات التي ألّفها أو شارك فيها هي المسؤولة عنها.
وسبق للحزب حينما كان مشاركاً في حكومة التناوب التوافقي التي ترأّسها الزعيم الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي في 1997، أن أظهر نزعات معارضة لحكومة يشارك فيها.
ثانياً، انخفاض شعبية التشكيلات اليسارية. تراجعت القيمة الانتخابية لمجموعة من الأحزاب ذات النزعة اليسارية، ويظهر ذلك جلياً في ما يتعلق باليسار الحكومي كـ«الاتحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية» الذي احتلّ المرتبة الخامسة بعدما كان يملك الغالبية في انتخابات 2002 بالتشارك مع حزب «التقدم والاشتراكية» (17 مقعداً) و«جبهة القوى الديموقراطية» (9 مقاعد). أمّا الأحزاب الثلاثة التي يُطلق عليها اسم «اليسار غير الحكومي»، وهي الحزب الاشتراكي الموحّد، والمؤتمر الوطني الاتحادي، والوافد الجديد على اللعبة الانتخابية أي حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي، فقد تقدّمت للانتخابات متحالفة وحصلت على 6 مقاعد بعدما كانت توقّعاتها تضعها في مرتبة متقدّمة. وعجزت مجموعة من الوجوه اليسارية المعروفة، ومن ضمنها وزراء في الحكومة المنتهية ولايتها، عن نيل ثقة الناخبين.
أما بالنسبة إلى الاتحاد الاشتراكي، فيبدو أنّه دفع ضريبة تدبيره الشأن العام خلال عشر سنوات لم يلامس فيها ناخبوه انتظاراتهم، وفشلت بذلك الأحزاب اليسارية في إقناع الناخب بأولوية التغيير السياسي والإصلاح الدستوري. ولعلّه يمكن تفسير انخفاض شعبية الأحزاب اليسارية خلال السنوات الأخيرة بتقلّص رقعة شرعيتها النضالية، وذلك نتيجة ممكنة لسياسة «طي صفحة الماضي» التي وضعها الملك محمد السادس من أجل خلق نوع من المصالحة مع اليسار. لقد أوجدت الملكية آليات لتطبيق سياستها من خلال تأسيس «الهيئة الوطنية للإنصاف والمصالحة»، وكان من بين أعضائها معتقلون سياسيون سابقون، ونظّمت جلسات استماع لضحايا «سنوات الرصاص»، تمّت في غياب الجلّادين بالطبع. وسُخّرت مختلف وسائل الإعلام الرسمية لمتابعة هذه الجلسات، في ظلّ مواكبة دعائية دولية كبيرة، وخُصّصت موازنة ضخمة لتعويض الضحايا، وغالبيتهم الساحقة من أبناء اليسار بمختلف تلويناته. وعلى رغم محدودية نتائج «طيّ صفحة الماضي»، استطاعت أن تخلق نوعاً من الوهم لدى المجتمع بحدوث مصالحة بين القصر الملكي واليسار، وبالتالي وقع شرخ في تعاطف فئات عريضة من المجتمع مع اليسار.
ثالثاً، بطلان مقولة الحزب الإسلامي الكاسح. يقدّم حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي نفسه بديلاً من النخب الحزبية التقليدية ومن ضمنها قوى اليسار، ويسعى جاهداً لاستقطاب أنصارها من كل الطبقات الاجتماعية، مع بقاء الطبقات الشعبية والمتوسطة الخزّان الذي ترتكز عليه قاعدته الاجتماعية.
لقد ظلّ هذا الحزب إلى حدود الساعات الأولى من الانتخابات، متفائلاً بقدرته على انتزاع غالبية المقاعد، ولا سيّما أن استطلاعات الرأي تنبّأت له بذلك، فيما وضعه الإنجاز الذي حقّقه حزب العدالة والتنمية التركي موضع المقارنة والتشبيه. ولطالما اجتهد الحزب في إظهار بعض السلوكيات المنفتحة، مبدّداً التخوّفات من تداعيات احتمال تولّيه السلطة. لكن ثقته الزائدة بالفوز الساحق تحوّل بعد ظهور النتائج إلى حالة من الارتباك، من دون أن تفقد قيادته الأمل في دعوتها من طرف الوزير الأول للمشاركة في الحكومة المقبلة، وخصوصاً أن الحزب حصل على المرتبة الثانية. ولكن من المرجّح أن يعود «العدالة والتنمية» إلى صفوف المعارضة، فعلى رغم القدرة التنظيمية والاستقطابية التي عُرف بها، إلا أنه يفتقر إلى القوّة النقابية التي كان يتمتّع بها الاتحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية حينما كان في المعارضة، وكانت له مقدرة كبيرة على توجيه الشارع السياسي بواسطة تنظيماته النقابية. إن الناخبين الذين اختاروا العدالة والتنمية لم يفعلوا ذلك لأنه قدّم لهم برنامجاً متميزاً عن باقي البرامج، ولكن ربما لأنهم ملّوا اللعبة السياسية القديمة، أو أنهم فعلوا ذلك تعاطفاً مع منظمة «حماس» الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
ثالثاً، استفحال أزمة التمثيل السياسي. يُشكّل ضعف المشاركة في العملية الانتخابية العمود الفقري لهذه الأزمة. فلطالما كانت المؤسّسة الملكية في عهد الراحل الحسن الثاني تتنازع شرعية التمثيل السياسي مع باقي المكوّنات السياسية، الشيء الذي دفعها، ومن أجل احتكارها، إلى العمل على إضعاف شوكة الأحزاب القوية والمنافسة، تارة بقمعها وتارة بإحداث انشقاقات داخلها. وظلّ التمثيل يأتي فوقياً، تتمّ المفاوضات بشأنه، فيبدو كمنحة آتية من القصر، فيما تظلّ إرادة الناخب في اختيار ممثّليه مسألة ثانوية. وخلّفت هذه الاستراتيجية الملكية، تداعيات في الثقافة السياسية لعلّ أبرزها التباعد بين المواطن والأحزاب، وبروز ظاهرة اللامبالاة تجاه المشاركة السياسية، وخصوصاً إبّان الانتخابات. لم يذهب إذاً 63 في المئة من الناخبين للتصويت لأحد الأحزاب المتنافسة الـ33. وهذا يعني أن هناك كتلة كبيرة من المواطنين لن يمثّلهم البرلمان ولا الحكومة ولا الأحزاب التي تتحمّل بدورها المسؤولية في تفاقم ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية، إذ عجزت عن مواكبة التحوّلات السريعة التي يعيشها المجتمع المغربي منذ الثمانينيات، وظلّت تتعامل بالآليات نفسها الاستقطابية والتعبوية والمرجعية، وخصوصاً بالنسبة إلى الأحزاب اليسارية التي ما زالت تعاني غياب الديموقراطية الحزبية وضعف التواصل مع البادية وهي القاعدة الاجتماعية للأحزاب اليمينية وقد تخترقها مستقبلاً الحركات الإسلامية.
إن مقاطعة الانتخابات يبقى سلوكاً سياسياً بامتياز، يشير إلى وجود أزمة في التمثيل السياسي، ويعكس اتساع الهوة بين المجتمع والمكونات الحزبية.
* صحافية مغربية وباحثة في العلوم السياسية