طوني صغبيني *
في شهر أيلول الماضي، نقلت وكالات الأنباء خبراً مفاده أن دورية للجيش الأميركي في العراق أطلقت النار على سيارة كانت متوقّفة على جانب الطريق بحجة «الاشتباه بها»، وأردَت أباً عراقياً وابنيه الاثنين، ثم تركت الجثث داخل السيارة وتابعت سيرها طبيعياً. وهذا بالطبع غيض من فيض من الأعمال اليومية التي يقوم بها الجيش الأميركي، فضلاً عن المرتزقة الذين شاهدهم العالم أكثر من مرة منذ غزو العراق حتى اليوم.
أنباء أخرى نقلتها وسائل الإعلام في الشهر نفسه، منها طرد الشرطي تشارلز جونز من ولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة، بعد ظهور شريط يظهر «سوء معاملته» لكلب تابع للشرطة، ومنها حكم لمحكمة أميركية في دالاس قضى بسجن الشاب دبشون براون أربع سنوات بتهمة قتل كلبته، وذلك بعد تخفيف تهمته من القتل العمد لحيوان التي تصل عقوبتها إلى عشر سنوات، إلى تهمة «سوء معاملة
حيوان».
مفارقة حقاً أن يكون للكلب الذي أُفلت لينهش المعتقلين في معتقلات «أبو غريب» حقوق لا يملكها المعتقل نفسه!
لماذا يحاكم المحتلّ مواطنيه على «سوء معاملة حيوان» ولا يحاكم جنوده على ارتكاب المجازر بحق شعب فلسطين والعراق ولبنان؟
المسألة بسيطة جداً، علاقة المحتل مع مواطنيه هي علاقة دولة برعاياها، تهتم بهم وتدافع عنهم، لكن علاقته بنا هي علاقة «قوّة مخوّلة بالقتل» مع أهداف محتملة لها!
والعبارة المذكورة هنا «قوّة مخوّلة بالقتل» ليست عنواناً لفيلم سينمائي أو شعاراً مضاداً للحرب أو مزحة يتناقلها الجنود، بل هي عبارة زيّنت اللوحات الخلفية للآليات العسكرية الأميركية التي تجوب طرقات العراق في الفترة الأولى بعد الغزو، عندما وضع الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر قوانين تسمح للجنود الأميركيين بإطلاق النار على المواطنين العراقيين في حال الاشتباه بكونهم خطراً على العسكريّين، وفي المنطق الأميركي، كلّ عراقي هو مشتبه به دون أن يكون للمحاكم العراقية الحق في النظر في جرائم القتل التي تُرتَكَب بحقّ المدنيّين.
لكن اللوحات الخلفية للجيش الأميركي، لم تصمد طويلاً أمام الدبلوماسية التجميلية لواشنطن، الحاضرة دوماً لإضفاء مظهر «الرسالة السامية» على جرائمها، فقاموا بتغيير العبارة إلى: «ابتعد مسافة 100 متر عن المركبة». لكن العبارتين في الواقع تتكاملان؛ فإذا كانت اللوحة الأولى تعني «إننا مستعدون لقتلك» (وذلك لمصلحتك طبعاً) فالعبارة الثانية تعني: إنك ممنوع أيضاً من فعل أي شيء حيال ذلك ولا تستطيع حتى الاقتراب منّا ولو للكلام فقط.
وبعيداً عن الآليات الأميركية ودورياتها على الطرقات العراقية، فالعبارتان تقدّمان للباحثين تبسيطاً علمياً مثيراً وعنواناً مختصراً لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.
وذكاء هذه السياسة يتمثل رمزياً بإزالة العبارة التي تستفز المواطن العراقي، واستبدالها بعبارة لا تحمل تهديداً مباشراً له، وهو جزء صغير جداً من المحاولات الأوسع لسياسة واشنطن لخداع الشعوب وإخفاء أهدافها الحقيقية.ولو كان للدبلوماسية الأميركية لوحات خلفية، لحملت اللوحة الأولى عبارة: «انتبه: قوّة مخوّلة بمدّ النفوذ وسرقة الثروات الطبيعية»، وحملت اللوحة المجمّلة عبارة: «نريد إعطاءكم الديموقراطية والحرية!».
* من أسرة الأخبار